الاستهلاك المفرط والنمو المتسارع

الاستهلاك المفرط والنمو المتسارع

الاستهلاك المفرط والنمو المتسارع

 العرب اليوم -

الاستهلاك المفرط والنمو المتسارع

بقلم - لحسن حداد

لا أحد يجادل في أن النموذج الاقتصادي الحالي قد فشل فشلاً ذريعاً في خلق اقتصاد عالمي يسوده الازدهار والرخاء واستدامة الموارد والإنصاف داخل المجتمعات وبين الدول في مختلف أنحاء المعمورة. هكذا فالنظام الرأسمالي الحالي لم يخلق تفاوتات اجتماعية كبرى داخل المجتمع الواحد فحسب، ولكنه خلق تفاوتات أكبر بين دول الشمال ودول الجنوب.

ليس هذا فحسب؟ ولكن الاعتماد على النمو من دون الاكتراث بتأثيره الإيجابي على الحياة جعل الحكومات تقيس نجاحاتها بمعدلات النمو ولو كان على حساب التدهور البيئي والاستغلال الفاحش للموارد. الاهتمام بالنمو من دون قياس معدل إحساس المجتمعات بالرخاء والعيش الكريم جعل هدْر الموارد من دون جدوى اجتماعية حقيقية.

ولخلق هذا النمو المنشود مهما كلف الثمن، فإن عجلة الاقتصاد أصبحت ملتصقة بشكل معقد بضرورة حث المستهلكين على الاستهلاك بشكل أكثر، لما يحتاجونه وما لا يحتاجونه. بل وتكفلت مدارس ومعاهد وشركات الماركتينغ وسلوك المستهلك بإخراج وتوضيب وصقل وتجريب التقنيات والمناهج التي تصنع حاجيات ورغبات جديدة لدى الزبائن، وتؤسس لديهم ثقافة الموضة المتحولة، والماركة الجديدة، والموديل المثالي، والجمال النموذجي، وغيرها من الأحلام الفانتازية التي تجعلهم يستهلكون أكثر، وينتظرون صدور النسخ الجديدة بفارغ الصبر.

المشكل مع الاستهلاك المفرط هو أن الموارد تتضاءل وليست لا متناهية، ويتم استعمال كثير منها لتلبية حاجيات مختلَقة ومفبرَكة من طرف منظومة الموضة ومؤسسات الماركتينغ وآليات التجميل والأجهزة الإلكترونية المتجددة باستمرار، وليس لتلبية حاجيات أساسية، مثل التغذية المتوازنة، ومحاربة الجوع، والوقاية من الأمراض، والولوج إلى المدارس، وتثمين التراث المادي واللامادي، والمحافظة على ثقافة التضامن والتعاضد المحلية...

بل زاد تطور طبقات متوسطة في دول الجنوب، وسيطرة ثقافة الاستهلاك، من السباق نحو استعمال الموارد لاقتناء الكماليات تحت ضغط اجتماعي وانسياق قسري نحو الموضة، والجديد في الأجهزة، ومواد التجميل واللباس، والسيارات، والمجوهرات، وغيرها.

إذا استمرت الحكومات في استهداف النمو مهما كلف الأمر، واستمرت آليات الرأسمالية في تشجيع الزبائن على الاستهلاك المفرط، فإن الموارد ستندثر من دون أن تلبي الحاجيات الأساسية لسكان العالم. بل إن التدهور البيئي الناتج عن استغلال الموارد بطرق غير مستدامة سيؤدي إلى انهيارات متتالية في المنظومة، تُضاف إلى آثار التحولات المناخية التي أجهزت على مصادر العيش في كثير من مناطق العالم. وهذا يعني أن الاستهلاك بوصفه أساساً للنموذج الاقتصادي الحالي هو نظام غير مستدام، وقد يتسبب في انهيار النظام والأمن جراء تنامي الحروب والنزاعات حول الموارد التي بدأت تندثر شيئاً فشيئاً.

هكذا فنحن في أمسّ الحاجة إلى نظام لا يعتمد على النمو بأي ثمن، بل إلى نظام ينبني على أسس إحساس الأفراد بالأمن والطمأنينة، وصحة جيدة، والاستكانة إلى الذات والمجموعة الثقافية المحلية والطبيعة، وإلى الإحساس بالاكتفاء بما يلبي الحاجيات الأساسية.

تستند الرأسمالية الحديثة إلى الفرضية الخاطئة بأن الرغبات لا تُشْبَع، وأن الموارد اللازمة لتلبية هذه الشهوة (الخيالية) لا تنتهي كما قال تيم جاكسون في كتابه «الازدهار من دون نمو» (2009).

أظن أنه من الأنسب ابتكار مؤشر خاص بالنمو المتأتي من استعمال الموارد المتجددة، بينما يتم اعتماد مؤشر آخر خاص بالنمو المعتمِد على موارد غير مستدامة. وكلما كان المؤشر الأول مرتفعاً فإن النمو مستدام. وكلما تبين أن النمو يكون على حساب استعمال لموارد ملوِّثة وغير قابلة للتجدد فإنه نمو غير مستدام. الثروة ومناصب الشغل التي يخلقها النمو يجب أن تكون على أساس استعمال موارد قابلة للتجدد، وإلا فإنها نجاحات على حساب المستقبل.

ولكن النمو المستدام وحده غير كاف لتحقيق الإحساس بالازدهار! فالسعادة ليست أمراً مادياً فحسب. إنها تنهل من منظومات تتعلق بالإحساس بالانتماء، وثقافة التضامن والقيام بأمور ليست فيها مصلحة مادية أو اجتماعية...

اعتماد مؤشر النمو المستدام، وابتكار آليات لاحتساب الشروط المادية للحياة الكريمة، وكذا الأعمال التي يقوم بها الأفراد، والتي ليست لها صبغة نفعية أو ربحية، ولكن لها مدلول ثقافي ومجتمعي معين ومهم للأفراد والجماعات، ستعطينا صورة مركبة حول الازدهار بمفهومه العميق والمستدام، الذي هو الهدف الحقيقي للنمو، والسبيل الوحيد لحماية الحياة فوق الأرض من الاندثار.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستهلاك المفرط والنمو المتسارع الاستهلاك المفرط والنمو المتسارع



الأسود يُهيمن على إطلالات ياسمين صبري في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:39 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
 العرب اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 08:03 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
 العرب اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 07:49 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
 العرب اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 09:07 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

تامر حسني يكشف حقيقة عودته لبسمة بوسيل ويصدم الجمهور
 العرب اليوم - تامر حسني يكشف حقيقة عودته لبسمة بوسيل ويصدم الجمهور

GMT 19:57 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

دراسة حديثة تكشف علاقة الكوابيس الليلية بالخرف

GMT 06:40 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

2024 سنة نجاحات مغربيّة

GMT 06:32 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

هل قرأت افتتاحية «داعش» اليوم؟!

GMT 08:12 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

ممرات الشرق الآمنة ما بعد الأسد

GMT 09:29 2025 الخميس ,02 كانون الثاني / يناير

للمرة الأولى بعد «الطائف» هناك فرصة لبناء الدولة!

GMT 14:10 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

رسميا الكويت تستضيف بطولة أساطير الخليج

GMT 06:30 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

ما تم اكتشافه بعد سقوط النظام السوري!

GMT 11:26 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا يتفقدان سجن صيدنايا في سوريا

GMT 14:14 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

زلزال بقوة 4.7 درجة يضرب مدينة "سيبي" الباكستانية

GMT 14:10 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

جيش الاحتلال يرصد إطلاق صاروخين من شمال غزة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab