هناك في الدول الغربية من يعدّ الحرب الروسية في أوكرانيا مجرد حلقة من حلقات مسلسل بدأ منذ سنوات يحاول بموجبه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إعادة ترتيب التوازنات الجيواستراتيجية، وإعادة خلق مجالات حيوية جديدة على حساب الدول الغربية التي تغوَّلت واستأسدت بعد سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة. هذا بالإضافة إلى خلق حزام مُكَوَّنٍ من جمهوريات آسيا الوسطى وأرمينيا وبيلاروسيا.
خلقت روسيا ولاءات متناثرة عبر مناطق وجمهوريات صغيرة في ترانسينيسترا (شرق مولدوفا)، وفي أبخازيا وأوساتيا الجنوبية في جورجيا، وفي جزيرة القرم ومقاطعات لوهانسك والدوناتسك شرق وجنوب شرق أوكرانيا، من دون أن نغفل الطريق/الرواق الذي يشق الحدود بين ليتوانيا وبولونيا ويشكل ممرّاًً بين بيلاروسيا وإقليم كالنينغراد الروسي المطل على بحر البلطيق. مجال حيوي شاسع يُعدّ سوراً واقياً لروسيا وفي الوقت نفسه يعيد لها أمجادها القيصرية والسوفياتية في آن واحد.
ليست روسيا وحدها من لها هذه الرغبة. فالصين لديها الطموح نفسه، حيث نهجت في عهد الرئيس كي جيبينغ سياسة جديدة لدعم وجودها في بحر الصين، ودعم المبادرات الجهوية لخلق تكتلات اقتصادية يكون للصين فيها دور الريادة، بالإضافة إلى المبادرة العملاقة «طريق الحرير الجديد»، والتي ستخلق شبكة جديدة من البنية التحتية تجعل من الصين بؤرة للتبادلات التجارية العالمية. هدف الصين من المزج بين الهيمنة الناعمة (الاقتصادية والمالية والثقافية) وغير الناعمة (العسكرية) هي فرض وجودها كلاعب لا محيد عنه في عالم اليوم والغد.
وإذا أضفنا إلى هذا تنامي دور تركيا كفاعل جديد لا يخدم بالأساس الأجندة الغربية، وطموح دول لها وزنها الإقليمي والدولي في الخليج العربي والتي سلكت سلوك استقلالية القرار في علاقاتها مع الفاعلين الدوليين، نجد خريطة جديدة للتقاطبات على المستوى الدولي سيكون لها أثر سلبي على الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية لدول الغرب على العالم.
لكن المسرح الجديد لهذا التحدي المتنامي لسيطرة الدول الغربية على العالم يبقى هو أفريقيا. الكل يعرف كيف أن فرنسا لم تعد فاعلاً أساسياً في وسط أفريقيا وغربها كما كانت في السابق، بل لقد تم فك الارتباط بها من طرف دول لها أهميتها، مثل أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو، ويتم التظاهر ضدها من طرف الكثير من الشباب في تشاد والنيجر، فهم يرون في الوجود الفرنسي إعادة إنتاج للدور الاستعماري لفرنسا، لا أقل ولا أكثر. بيد أن الأمر يبدو أعمق من رفض متجدد للنيوكولونيالية الفرنسية إنه تحول ذو أبعاد جيواستراتيجية وله ارتدادات في السودان ومالي وبوركينا فاسو، وأخيراً في النيجر. والحلقة الناظمة هذا التحول هي سيطرة العسكر ودخول فاعلين عسكريين غير نظاميين أجانب المعادلة، ونبذ متواصل لأي تدخل غربي مقابل الترحيب بأدوار دول أخرى غير غربية، مثل روسيا وإيران وتركيا ودول عربية.
في مالي، وقع انقلاب صيف 2020 على نظام إبراهيم أبو بكر كيتا (المُنتخَب ديمقراطياً منذ 2013)، تلاه انقلاب آخر في ربيع 2021 تولى بموجبه العقيد أسيمي غويتا مقاليد الحكم بعد إبعاد الرئيس المدني، بان نداو، الذي خلف كيتا على الرئاسة. حكام مالي الجدد جاءوا على خلفية تذَمُّرٍ كبير في صفوف القوات المسلحة المالية جراء غياب العتاد وعدم أداء الرواتب، وعلى خلفية فشل عملية «براخان» الفرنسية وتعويضها بقوات أمن دولية خاصة تُعْرف باسم «تابوكا».
إن توالي هجمات المجموعات المسلحة خَلَق إجماعاً بعدم جدوى وجود القوات الفرنسية والدولية وتعويضها بقوات تدخل أنجع وأسرع، أي قوات «فاغنر» الروسية التي اكتسبت سمعة ميدانية في ليبيا وأفريقيا الوسطى.
في أفريقيا الوسطى، تحارب مجموعة «فاغنر» إلى جانب القوات النظامية ضد الثوار وتستثمر في الإعلام والمعادن والسياسة. وفي بوركينا فاسو، تم تداول صور لعناصر من «فاغنر» على وسائل التواصل الاجتماعي ولكن الحكومة العسكرية تنفي ذلك، والنفي ذاته جاء من موسكو (لوموند، 23 فبراير/شباط 2023). لكن بوركينا فاسو كانت قد طالبت بعد الانقلاب العسكري (سبتمبر/أيلول 2022) برحيل القوات الخاصة الفرنسية (المسماة «صابر»)، وهو ما يعني البحث عن «شركاء عسكريين» آخرين لحماية البلاد من هجمات الجماعات المسلحة.
وما زاد الطين بلة هو الانقلاب الذي وقع في النيجر يوم 26 يوليو (تموز) 2023، والذي جعل دول منظمة الغرب الأفريقي (خصوصاً نيجيريا والسنغال وكوت ديفوار) تصطف إلى جانب «الشرعية الديمقراطية» - وهو موقف تسانده فرنسا والدول الغربية - وتهدد بالتدخل العسكري في النيجر لإرجاع الرئيس المدني محمد بازوم إلى الحكم، بينما هددت مالي وبوركينا فاسو بالتدخل إلى جانب العسكر في النيجر لحماية الانقلاب. موقف بوركينا فاسو المساند الانقلاب جعل فرنسا تعلِّق مساعداتها لها؛ ما يعني أن عسكر بوركينا فاسو سيجدون أنفسهم مضطرين إلى الارتماء أكثر في أحضان شركاء غير غربيين من قبيل روسيا والصين.
في السودان، ورغم أن الصراع بين الجيش بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان وقوات «الدعم السريع» بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) يبقى صراعاً داخلياً على السلطة، فإن الأبعاد الإقليمية والدولية للصراع غير مُغيَّبة. وربما بفضل الدعم الذي تحصل عليه قوات «الدعم السريع» صارت جزءاً في معادلة أكبر تحاول بموجبها دول كبرى غير غربية تحقيق مكاسب والتأثير في مناطق حساسة من أفريقيا.
إذا أضفنا إلى كل هذا كيف أن دولاً أفريقية كثيرة تعتمد على التمويل والاستثمار الصيني الذي يأتي من دون شروط سياسية أو غيرها، نرى أن أفريقيا تشهد تحولات عميقة ستغير بشكل جذري منظومة «الولاءات» للغرب والتي استمرت لعقود طويلة.
نعم، بعد انقلاب «فاغنر» ضد القوات الروسية انطلاقاً من أوكرانيا، سيكون هناك تحول في طريقة التدخل الروسي، ولكن روسيا مثلها مثل الصين وتركيا ودول عربية، ستبقى فاعلاً أساسياً في مسرح الأحداث عبر القارة الأفريقية. نعم سيعتمد الأمر على ردة فعل دول مثل فرنسا والولايات المتحدة، ولكن الرأي العام في الكثير من الدول الأفريقية لا يبدو أنه متحمس بشكل كبير لإعادة إنتاج علاقات الهيمنة مع الغرب.