بقلم: لحسن حداد
لم تستكمل حكومة عزيز أخنوش شهراً واحداً في أواخر 2021، حتى خرجت أصوات تطالب برحيله ورحيل حكومته. حدث هذا حتى قبل المصادقة على قانون المالية، أي قبل موافقة البرلمان على الموازنة التي تعطي الحكومة إمكانية صرف الاعتمادات لتنفيذ برامجها والوفاء بوعودها.
الحملة الأولى كانت من دون عذر، من دون منطق، ومصدرَ استغرابِ الجميع. أخطأ أصحابها التوقيت، ولكنهم كانوا في حُرقة يعيشون، ينتظرون على أحرِّ من الجمر لإطلاق حملتهم. وأطلقوها قبل الأوان، قبل الفعل: «قبل الرسالة وقبل الحرف»، كما يقول الفرنسيون. النية المبيتة كان لها السبق، فانفضح السر وظهرت السريرة: ألا نعطي أخنوش وقتاً ولو قليلاً لكي يترجم أفكاره إلى سياسات أو برامج أو واقع فعلي.
بعدها بأشهر قليلة، طفت إلى السطح حملة أخرى تطالب برحيل رئيس الحكومة، مستعمِلة بعض قضايا التعليم والصحة؛ هكذا تم استعمال المدفعية الثقيلة في هذه الحملة: الحسابات الزائفة في «فيسبوك» و«إنستغرام»، وشراء «اللايكات» لتظْهَرَ الحملة وكأنها مليونية. وتم دعم المضمون بفيديوهات منتَجة بطريقة احترافية ومدعومة بشراء «اللايكات» كذلك، والمشاركات المتعددة، لتطفو على سطح وسائل التواصل الاجتماعي وكأنها حملة شعبية، وتمَّ كذلك الاستنجاد ببعض المؤثرين والمؤثرات ذوي الحسابات التي يتبعها مئات الملايين من الرواد.
بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، وتفاقم التضخم الذي خلَّفه ««كوفيد-19»» واكتوى عموم المغاربة بالتهاب الأسعار؛ خصوصاً المحروقات، وجدها مناوئو عزيز أخنوش فرصة سانحة لتدشين حملة جديدة أكثر قوة، مستعملين وسائل أضخم وتقنيات أكبر. جرى تجنيد عشرات المؤثرين، وخلق مئات من الحسابات الزائفة، وحشد موازنات ضخمة لشراء «الرعاية»، وخلق أكبر عدد ممكن من المشاركة والإعجاب، لكي يتحول هاشتاغ «الرحيل» إلى توجه غالب (تريند).
هناك نية مبيتة لاستعمال أي شيء، بما فيها غلاء الأسعار، للتحامل على أخنوش. ولا أظن أن هذا الإصرار سيتبخر إذا انخفضت الأسعار واستقرت الأمور على المستوى الدولي. لماذا؟ ما الأسباب الظاهرة والباطنة التي تحرك الحركة ضد أخنوش؟
أظن أن أخنوش نجح فيما لم ينجح فيه الآخرون؛ خصوصاً الذين استعملوا كل الوسائل وجرَّبوا كل شيء، ألا وهو إزاحة الإسلاميين عن تَصَدُّرِ نتائج الانتخابات، بعد عشر سنوات من حكمهم.
حاول هؤلاء عبر وصفات تكتلات حزبية في 2011، وتغيير قيادات حزبية معينة، والإتيان بوجوه شعبوية لمواجهة عبد الإله ابن كيران، والدفع بحزب «الاستقلال» للخروج من الأغلبية لزعزعة استقرار الحكومة التي يقودها الإسلاميون في 2013، والسيطرة على الجهات (المناطق) في 2015، واستعمال كل الوسائل المتاحة وغير المتاحة في 2016 لربح الانتخابات التشريعية لزعزعة قبضة الإسلاميين. غير أن هؤلاء فشلوا فشلاً ذريعاً؛ بل كلما تحركوا زادت قوة الإسلاميين.
استفاد أخنوش من فشل من حاولوا زعزعة الإسلاميين، وقام بتنظيم حزبه تنظيماً محكماً، والقيام بحملة على مر أربع سنوات، وتكوين وتأطير المرشحين، ووضع الوسائل رهن إشارتهم، والتركيز على ما يريد القيام به؛ لا على الخصوم. هذا ما جعله يتبوأ مركز الصدارة متبوعاً بحزبين قاما بتحديث عملهما بوجود قيادات جديدة لها حِسٌّ سياسي متطور، ألا وهما «الأصالة والمعاصرة» و«الاستقلال»، لتُكوِّن الأحزاب الثلاثة أغلبية مريحة كوَّنت الحكومة التي عيَّنها الملك محمد السادس، وصادق عليها البرلمان قبل نهاية 2021.
إن هذا النجاح المدوي الذي جعل أخنوش وحلفاءه يدفعون الإسلاميين إلى المراتب السفلى، هو ما جعل من فشِل لا يرضى بالفشل. وكأنه يقول للشعب ولمن يهمهم الأمر: «لقد فشِلتُ في إزاحة الإسلاميين رغم وصفاتي السحرية المتعددة، ولكن سوف أبرهن لكم كيف أن أخنوش سيفشل في التدبير»... «نعم فشلتُ ولكننا كلُّنا فاشلون».
سياسة «الأرض المحروقة» ستُبعثِر الأوراق، وتدفع إلى إعادة النظر في تركيبة الحكومة أو إعادة الانتخابات، أو زعزعة استقرار الأحزاب المكونة للحكومة.
أنا لا أومن بنظريات المؤامرة، ولكن ما يتعرض له الأمين العام الحالي لحزب «الأصالة والمعاصرة» من حملات متتالية تدخل في هذا الإطار؛ خصوصاً أن هذا الأخير هو من أزاح أصحاب الوصفات السحرية من قيادة الحزب. ما يجرى من شنآن داخل حزب «الاستقلال» أمْرٌ داخلي، وليس من المستبعد أن يستغله أصحاب الوصفات السحرية، لمحاولة إحداث رجَّة داخل الحزب.
«كل شيء ممكن ومباح لإعادة خلط الأوراق. الإمكانيات موجودة، والرغبة في الثأر ممنْ نجحوا قوية، والمؤثرون مستعدون، والحسابات الزائفة جرى الاحتفاظ بها منذ حملة المقاطعة، وغضبُ الشعبِ على غلاء الأسعار فرصة سانحة. إذن لماذا لا نوقظها ناراً تأتي على الأخضر واليابس، وتخلط الأوراق، ونصنع وضعاً متجدداً؛ إنْ لم يُعطِنا دوراً جديداً ومَجْداً مفقوداً، فعلى الأقل سنعمل من وراء الكواليس نُسْدي النصيحة في وضع خلقناه بأيدينا، وسنعطي المشورة في كيفية الخروج منه».
قد يصف البعض كل هذا بـ«بارود شرف» (كما يقول الفرنسيون) يُطلِقه البعض للتعبير عن أنَفَتِهم رغم فشلهم، وعن شرفهم رغم هزيمتهم. وهذا أمر وارد. فهؤلاء اكتسبوا الجاه والمال وكانت لهم سلطة استعملوها لتحقيق أهداف معينة (الانتصار على الإسلاميين) وجرَّبوها لعدة مرات وفشلوا فشلاً ذريعاً (وتم إقصاؤهم من الساحة السياسية) ونجح أخنوش وحلفاؤه فيما كانوا هم فيه فاشلين. من الطبيعي أن يطلقوا طلقات شرف هنا وهناك لابتلاع جرعة الهزيمة المُرَّة.
ولكن هذا يعني اللعب بالاستقرار السياسي للبلاد من أجل مصالح ذاتية، من أجل إعادة عقارب التاريخ إلى أمجاد ماضٍ قريب مضى إلى غير رجعة.
موجة الغلاء والنكسة الاقتصادية التي أحدثها فيروس «كورونا»، وتوالي سنوات الجفاف، وثقل التغيرات المناخية والوضعية الاجتماعية للطبقات الفقيرة والمتوسطة، لا تقتضي اللعب بنار الاحتجاج المفبرك عبر الحسابات الزائفة من أجل الثأر من الماضي وهزائمه؛ بل تقتضي فتح نقاش عريض حول الأزمة، والدفع بأمور دستورية، مثل سحب الثقة من الحكومة، والتطارح أمام الملأ حول قدرة الحكومة على تدبير المرحلة، ومدى نجاعة ما تقدمه من حلول ووصفات.
من يريدون رحيل أخنوش وحكومته عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبحسابات زائفة، يضربون الديمقراطية في الصميم. الصواب هو النقاش الرزين والنقد والتطارح داخل المؤسسات، لا خارجها. والرأي العام وصناديق الاقتراع هي الحَكَم في نهاية المطاف. ليس بالغوغاء المصطنعة نصنع التغيير، ولكن بالنقاش الديمقراطي الحر والنزيه نبني الحاضر والمستقبل.