راجح الخوري
كان من السهل على البحر الأسود أن يبتلع أيقونة البحرية الروسية «موسكفا»، التي لطالما شكّلت رمزاً للهيبة العسكرية الروسية، التي حرص الرئيس فلاديمير بوتين دائماً على اصطحاب عدد من زواره الرؤساء والزعماء العالميين، للصعود إلى متنها بوصفها ترمز إلى عظمة روسيا العسكرية، خصوصاً أن روسيا لا تمتلك من حاملات الطائرات، التي يمكن أن توازن تلك التي تملكها الدول الأخرى.
لكنها «موسكفا» التي كانت دائماً فخر البحرية الروسية منذ دخولها الخدمة في عام 1985، ولهذا فالقول إن البحر الأسود ابتلعها، بعد إصابتها بصاروخين أوكرانيين من طراز «نبتون»، سيظلّ أصعب بكثير وأشد تأثيراً، من أن يبتلع الرئيس بوتين غرقها، كما أعلن بدايةً ماكسيم مارشنكو، حاكم المنطقة المحيطة بميناء أوديسا على البحر الأسود، خصوصاً أن «موسكفا» كانت في خطط الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، تمثل خنجراً في خاصرة الأوكرانيين، وجاء إغراقها في البحر الأسود بهذا الشكل المهين، ليضاعف من معالم التعثر الذي يصيب الهجوم الروسي، الذي بدأ في 24 فبراير (شباط) الماضي، وهو ما زاد من علامات الاستفهام والشكوك، التي أحاطت حتى الآن بالعملية العسكرية الروسية، التي يتردد منذ أسابيع مثلاً أنها طحنت مدينة ماريوبول وحوّلتها غباراً وقتلت الآلاف في داخلها، لكنها عجزت حتى كتابة هذه السطور من الاستيلاء عليها! مَن أغرق «موسكفا»؟ المثير أنك تواجه جواباً متناقضاً ومتداخلاً عندما تقول صحيفة «التايمز» البريطانية يوم الأربعاء الماضي، إن طائرة رصد أميركية كانت تحلّق على بُعد 165 كيلومتراً من مكان رسوّ «موسكفا»، بما يوحي ربما بأنها أعطت الأوكرانيين إحداثات مكّنت صواريخهم العادية من إغراقها، وهو أمر لا يصدّق بسهولة وإن كان من شأنه أن يزيد من حدة إمكانية الاصطدام بين روسيا والولايات المتحدة، الذي قد يلامس الحدود النووية المنضبطة كما تقول تحليلات الصحف الغربية.
غير أن ما يزيد المشهد غموضاً ويفتح مجالاً لمزيد من التفسيرات هو أن السفن الروسية في البحر الأسود ابتعدت عن الساحل بعد غرق «موسكفا»، في وقت راجت فيه أخبار محيّرة وغير مثبتة عن إمكان قيام الأميركي المهووس بالفضاء إيلون ماسك بتقديم معلومات وإحداثيات عبر أقماره الصناعية إلى الأوكرانيين، وثمة تحليلات إضافية هنا تحاول أن تربط نشاط ماسك الفضائي بخطط البنتاغون الأميركي وهو طبعاً ما يثير الاستغراب! في أي حال إن مراقبة مسار الموقف السياسي الأميركي حيال الحرب في أوكرانيا لا يوحي ضمناً، ولا على مستوى أي قاعدة سيكولوجية بأنه يمكن أن تكون واشنطن متورطة في دفن «موسكفا» في البحر الأسود، فمع بدء هجوم بوتين على منطقة دونباس يوم الثلاثاء الماضي، دعا الرئيس جو بايدن حلفاء الولايات المتحدة إلى الاجتماع لبحث تطورات أوكرانيا، وأن هدف الاجتماع بذل مزيد من الجهود لمحاسبة روسيا، وعندما سئل نيد برايس المتحدث باسم الخارجية الأميركية إن كان سيتم إعلان عقوبات جديدة ضد موسكو، قال: «سنواصل تصعيد عقوباتنا الاقتصادية ضد روسيا حتى تتراجع عن حملتها العسكرية ضد أوكرانيا، لكننا لم نلمس هذا حتى الآن، لذلك سنواصل رفع تكاليف الحرب على موسكو».
ولكن هل يمكن فعلاً أن يتصور بايدن ودول حلف الناتو أن الرئيس فلاديمير بوتين شنّ اجتياحاً كارثياً في نتائجه حتى الآن، ليتوقف وينسحب حاصداً نتائج أكثر كارثية تنعكس عليه وعلى صورة ودور روسيا في العالم، في حين يقول وزير الدفاع سيرغي شويغو يوم الأربعاء الماضي، إن روسيا بدأت عمليتها العسكرية بهدف تحرير شرق أوكرانيا «وإننا نطبق خطتنا تدريجياً لتحرير دونيتسك ولوغانسك، ولكن الغرب يعمل لعرقلة العملية وإطالتها»؟
صار واضحاً تقريباً أن بوتين يريد أن يكمل سيطرته في منطقة دونباس قبل التاسع من شهر مايو (أيار) المقبل، لكي يعلن عن هذا كانتصار في الاحتفال الذي يقام سنوياً في الساحة الحمراء في موسكو، وهو ذكرى الثورة السوفياتية، ولكن السؤال: هل يتمكن من أن ينجز هذا إذا كان الأوكرانيون سيقاتلون في دونباس كما قاتلوا في كييف وفي ماريوبول، التي صارت دماراً كاملاً ولم تستسلم، خصوصاً عندما يعلن البنتاغون أن إرساله دفعة جديدة من المساعدات العسكرية الأميركية بقيمة 800 مليون دولار وصلت إلى الحدود، حيث يقوم جنود أميركيون في المنطقة الشرقية من حلف الناتو بتدريب الجنود الأوكرانيين عليها وبينها مدافع هاوتزر «M777» من الجيل الجديد؟ وقال المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي، إن الشحنة وصلت بسرعة قصوى خلال 48 ساعة، ما يوحي عملياً بأن هناك رغبة لدى واشنطن في أن تتحول منطقة دونباس إلى خط مواجهة قوي في وجه الاجتياح الروسي، بما يمنع بوتين من الاحتفال بيوم التاسع من مايو بسقوط تلك المنطقة التي يمكنه بالتالي أن يقدمها أمام الرأي العام على أنه جائزة الترضية التي حصدها بنتيجة حربه الأوكرانية! وفي هذا السياق ليس خافياً أن خطة بوتين الثانية مع بدء الهجوم تهدف إلى احتلال منطقة دونباس المؤلفة من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك اللتين سبق له أن اعترف باستقلالهما، بينما كان يحتل ثلثهما فقط منذ الغزو الأول للقرم في عام 2014. وكذلك يريد بوتين إقامة جسر بري بين دونباس وشبه جزيرة القرم للربط بين الأراضي التي أعادت روسيا احتلالها وبين الأراضي الروسية، وواضح أنه يريد احتلال مدينة خيرسون ليمنع الأوكرانيين من قطع المياه إلى جزيرة القرم عن باقي أوكرانيا، إضافةً إلى الاستيلاء على مزيد من المناطق العازلة كمكاسب للحاجة! لكن السؤال يبقى: هل تكون مقاومة دونباس أقل من مقاومة كييف وماريوبول، وإذا كان بوتين خسر الجائزة الكبرى غرب أوكرانيا فهل يتمكن من أن يربحها في شرقها؟