بقلم - راجح الخوري
في المحصّلة السياسية كان من الطبيعي أن ترتد الاتهامات التي ساقها الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله إلى المملكة العربية السعودية وقيادتها، في الذكرى الثانية لمقتل قاسم سليماني، موجة عارمة من التنديد والإدانة والاستنكار الشامل وغضباً موجهاً إلى «حزب الله» وإلى إيران.
يبدو أن نصر الله كان يتوقع كل هذا السيل من الردود السياسية والحزبية والشعبية الرافضة والمستهجنة عليه، ولهذا قال في خطابه: «أعرف أنه ستقوم القيامة بكرا»، طبعاً رداً على اتهاماته، بما يعني ضمناً أنه يدرك أن هناك إجماعاً لبنانياً يتسع ويتعمق، رافضاً كل سياق المسار الإيراني الذي ينفذه «حزب الله»، وكل سياسة توجيه الاتهامات والافتراءات، والانخراط في حروب المنطقة، وتخريب علاقات لبنان العربية والخليجية.
وكان يعرف أن هيمنة دويلته على الدولة اللبنانية ومعاملتها كرهينة سياسية تواجه رفضاً متزايداً من كل اللبنانيين، ولهذا، سريعاً، جاء الإجماع الواسع رداً على قوله إن السعودية ودول الخليج تتخذ من اللبنانيين رهائن مهددة بطردهم وحرمانهم من أموالهم وأرزاقهم، بينما أجمعت الردود على أن الحزب هو الذي يتخذ من لبنان واللبنانيين رهائن، فيعطّل دولتهم ويشلّ حكومتهم وسلطاتهم، ويهددهم بأنه يملك مائة ألف مقاتل!
لكن يبدو أن «الرهينة اللبنانية» بدأت، أخيراً ورغم كل شيء، تثير قلق الحزب، في ضوء سلسلة متلاحقة من التطورات المحليّة والإقليمية؛ فبعد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المملكة العربية السعودية، ولقائه مع ولي العهد الأمير محمد سلمان، والاتصال مع الرئيس نجيب ميقاتي، بدأ بعض المسؤولين في بيروت يتمعّنون فعلاً في معنى تكرار الرياض أنه ليس من مشكلة بين لبنان والسعودية، إنما المشكلة في لبنان.
كان مفاجئاً مثلاً لنصر الله أن يضيف حليفه الرئيس ميشال عون، في الرسالة التي وجهها إلى اللبنانيين، يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، إلى ما كان يردده أخيراً عن الحرص على علاقات لبنان مع الدول العربية، ولا سيما دول الخليج، وفي مقدمها السعودية، ذلك السؤال الموجه تحديداً إلى نصر الله و«حزب الله»: «ما الفائدة من القتال خلف البحور واستعداء الدول العربية؟»، ويجيء ذلك مع تكرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الكلام عينه تقريباً، عن التمسك بهوية لبنان العربية، وأهمية علاقاته مع الدول الخليجية، خصوصاً المملكة العربية السعودية، وفي هذا السياق المتصاعد فوجئ الحزب بقرار أصدرته الحكومة قبل أسبوعين، يطلب من وزير الداخلية ترحيل مجموعة من «جمعية الوفاق» البحرينية المحظورة، كانت دخلت إلى لبنان من دون إذن، وبحماية «حزب الله» الذي نظم لها مؤتمراً صحافياً في الضاحية الجنوبية، ويؤمن لها الحماية حتى اليوم منعاً لإبعادها عن لبنان، تنفيذاً لقرار الحكومة!
وفجأة أوحى عون، على خلفية حسابات انتخابية، بجواز عقد جلسة لمجلس الوزراء في ظل المقاطعة الشيعية التي تشل عمل السلطة التنفيذية، رغم تمهّل ميقاتي. وكانت دعوة عون إلى عقد مؤتمر وطني يبحث اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة والاستراتيجية الدفاعية، التي يُفترَض أن تحصر السلاح في يد الدولة، وخطة التعافي الاقتصادي والمالي، قد فاجأت «حزب الله»، وجاء كل هذا وسط إحساس عند الحزب عبَّر عنه جواد حسن نصر الله عبر «تويتر»، كاتباً: «كرّت السبحة»، في إشارة إلى قرار ترحيل أعضاء «جمعية الوفاق»، واتساع تململ المسؤولين من هيمنة الحزب وتدخلاته في دول المنطقة، وتعمّد تكرار التأكيد على عروة لبنان والحرص على علاقاته مع السعودية ودول الخليج العربي.
وتزامنت هذه التحولات الصغيرة اللبنانية مع تطورات إقليمية مهمة جداً؛ ففي اليمن لم تسقط مأرب مثلاً، كما كان الإيرانيون وميليشياتهم يزعمون ويراهنون، لا بل اتخذت المعركة اتجاهاً معاكساً، وجاء المؤتمر الصحافي للمتحدث باسم تحالف الدفاع عن الشرعية اليمنية، ليكشف بالصوت والصورة مدى تورط «حزب الله» في الحرب والاعتداءات على السعودية أيضاً، متهماً طبعاً الحزب بالإرهاب، في وقت تتوسع فيه قائمة الدول التي تصنفه إرهابياً.
وكانت الانتخابات العراقية قد وجهت صفعة قوية إلى إيران، التي سبق لمسؤوليها الادعاء بأنهم باتوا يسيطرون على بغداد كعاصمة «لإمبراطوريتهم الفارسية»، وكذلك على صنعاء ودمشق وبيروت، وتزامن كل هذا مع قلق متزايد عند الحزب وحلفائه في «التيار الوطني الحر» من نتيجة الانتخابات اللبنانية التي ستجري في مايو (أيار) المقبل، وهو ما دفع المسؤولين في الحزب، خوفاً من النتائج، إلى التهديد علناً وصراحة بأن «الأكثرية لن تحكم»، بما يعني أن «الديمقراطية التوافقية» التي فرضها الحزب بقوة السلاح في الدوحة عام 2008، والتي تستعمل الآن سلاحاً لتعطيل الدولة وأخذ لبنان واللبنانيين رهينة ستستمر، رغم أن «اتفاق الطائف» هو دستور لبنان.
ومع التعقيدات المتزايدة في المحادثات النووية في فيينا، وما قيل عن تفاهم ضمني، بين واشنطن وموسكو، على تقليم أظافر الإيرانيين في سوريا، بدا عملياً أن حسابات «حزب الله» وإيران في المنطقة ليست عند الرهانات المعقودة على التدخلات التخريبية من اليمن إلى لبنان مروراً بالعراق وسوريا؛ فهل أراد نصر الله أن ينسف تصاعد التحرك اللبناني لإعادة تأكيد هويته العربية، فكان خطابه بمثابة صراخ عصبي بأن «الأمر لي»، على قاعدة سوْق اتهامات باطلة ومستنكرة إلى السعودية، قوبلت فوراً بسيل عارم من التنديد والاستنكار من معظم اللبنانيين رسمياً وشعبياً؟
وجه الاتهامات إلى السعودية قائلاً: «ستقوم القيامة بكرا»، لكن القيامة كانت قيامتين؛ قيامة اللبنانيين ضده تنديداً ورداً على قوله إن إخوتهم في السعودية ودول الخليج رهائن، بينما هو الذي يأخذ لبنان رهينة، وفي وقت كان واضحاً أن ما يزيد في غيظه أن السعودية ودول الخليج أكدت تكراراً حرصها على معاملة اللبنانيين كأبنائها؛ فهم آمنون ومحصنون ومكرمون، وقد أصدر المجلس التنفيذي لهؤلاء بياناً رد فيه على نصر الله بالقول: «كفى عبثاً بأمن البلاد ومصالح العباد، عودوا إلى لبنانيتكم، وكفّوا عنا شرَّكم».
يقول نصر الله إن السعودية كانت تريد لبنان إمارة ومشيخة، لكن السعودية هي التي رعت «اتفاق الطائف» الذي صار دستوراً، ودعمت لبنان، وعمّرت بلداته وقراه في الجنوب بعد العدوان الإسرائيلي عام 2006، بينما يتبجح الإيرانيون دائماً بالقول إنهم باتوا يسيطرون على بيروت، في حين يقول نصر الله إنه سيكون «حيثما يجب أن يكون»، بمعنى حيث تريده طهران وخططها التوسعية الإقليمية أن يكون؛ لهذا يقاتل في اليمن وسوريا والعراق.
كانت الردود المنددة والمستنكرة لكلام نصر الله واتهاماته، بمثابة تسونامي، ما دفع حسن فضل الله، وهو أحد نواب الحزب، إلى أن يوجه الإهانة إلى الرئيس ميقاتي، فيصفه بالذليل؛ فماذا عن عشرات التصريحات والردود التي جاءت بالفعل كالقيامة على كلامه الذي يكشف ضمناً أن قيامته هو والحزب قائمة؟ فلقد «كرّت السبحة»، ولن ينفع في النهاية خطاب عصبي غاضب أراد أن يقول: «ما زال الأمر لي»!
عندما أنهى نصر الله خطابه، غرد السفير السعودي لدى لبنان، وليد بخاري، عبر «تويتر» بما اعتبر ردّاً على نصر الله، عندما شبَّهه بشخصية ترمز إلى «الخيانة» عند العرب؛ فكتب: «افتراءات أبي رغال العصر وأكاذيبه لا يسترها الليل، وإن طال، ولا مغيب الشمس، ولو حرمت الشروق والزوال».