بقلم - عبد المنعم سعيد
لم تكن هناك مصادفة أن تأتينى دعوة من د. طارق مسعود، المسؤول عن مشروع الشرق الأوسط فى مركز «بلفر» للشؤون الدولية والعلمية فى جامعة هارفارد، للمشاركة فى ندوة تبحث عما إذا كان هناك طريق للخروج من الأزمة الراهنة فى الشرق الأوسط. ما فهمته أنه كانت هناك ندوات سابقة تبحث فى أسباب الأزمة، التى انفجرت منذ السابع من أكتوبر الجارى، ولم تتوقف حتى الآن، بل زادت اشتعالًا على مر الأسبوعين التاليين.
هذه المرة كان هناك نوع من الطموح إلى أن يكون هناك مخرج ما من الأزمة، التى على وشك أن تخرج من مسارها الفلسطينى الإسرائيلى إلى مسار إقليمى يعلم الله كيف سيكون كافيًا لانفجار دولى مروع. لم يكن هناك جديد فى المحاولة كلها، إلا أن انعقادها فى جامعة هارفارد أعطاها ثقلًا خاصًّا، خاصة أن إدارتها جاءت من مصرى الأصل تَخَرّج فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة، وانتهى به الأمر أستاذًا فى هذه الجامعة العريقة.
وفى تقديم الموضوع أشار إلى ما كان شائعًا فى الدوائر الأكاديمية الأمريكية من «تهميش» الدور المصرى وغيابه؛ ومقارنة ذلك بالموقف الحالى الذى يضع مصر فى قلب الأحداث. كانت مصر قد عقدت توًّا مؤتمرًا للسلام، ووقفت موقفًا صلبًا من ضرورة توصيل المعونات والمساعدات المصرية والدولية إلى غزة؛ بينما لا تكف عن الاتصال والتواصل مع القوى الإقليمية والعالمية، ليس فقط من أجل إنقاذ الشعب الفلسطينى، وإنما أكثر من ذلك البحث عن حل للقضية الفلسطينية المستعصية. كانت الجامعة قد شهدت تحركات سياسية من قِبَل الطلبة تم فيها التظاهر، وإصدار البيانات المؤيدة للشعب الفلسطينى، وجاءت المفارقة من احتجاج عميد سابق للجامعة على ذلك. لم تكن «هارفارد» فى ذلك استثناء من كثير من الجامعات الأمريكية، التى اتخذت نفس الموقف، والتى عكست موقفًا عامًّا بين الشباب الأمريكى، بينما الكبار يحتجون على الاحتجاج.
من قبل لم يكن باقيًا من القضية الفلسطينية الكثير، اللهم إلا قصة الانقسام الفلسطينى، التى تظهر وتختفى فى الإعلام العربى حسب حركة القادة الفلسطينيين، والمنافسة بين فتح وحماس، وتحركات «خالد مشعل» بين الدوحة وأنقرة وطهران، وإصرار السلطة الفلسطينية والجامعة العربية على أن منظمة التحرير الفلسطينية هى الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى، مع الصدور السنوى للقرارات العربية التى تخص القضية «المركزية». دار الحديث أحيانًا عن «الانتفاضة الثالثة»، التى سرعان ما شحبت لأن ممارساتها باتت إعلاميًّا أقرب منها إلى الإرهاب من قربها إلى «المقاومة». وفى كل الأحوال، فإن إسرائيل بقيادة نتنياهو الفائز فى الانتخابات بدأت تتصرف على المستوى العالمى كما لو كانت بلد الهدوء والرخاء والاستقرار والديمقراطية، فى منطقة مشتعلة ملتهبة تصدر الإرهاب إلى العالم، واسمها الشرق الأوسط، الذى كبر فجأة، وصار ممتدًّا من حدود الصين شرقًا إلى شاطئ المحيط الأطلنطى غربًا، ومن الحدود التركية الروسية شمالًا حتى القرن الإفريقى جنوبًا. ومع كبر الشرق الأوسط ومعضلاته، صغرت كثيرًا القضية الفلسطينية، حتى ولو كانت كبيرة ومشتعلة فى قلوب العرب والفلسطينيين.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى أتيت فيها إلى جامعة هارفارد، فقد سبقتها مرات أثناء التسعينيات من القرن الماضى لحضور مؤتمرات كانت فى معظمها تدور أيضًا حول «أزمة الشرق الأوسط»، ثم فى عام ٢٠٠٣ دُعيت من قِبَل مركز «بلفر» إلى صيف كامل أعد فيه دراسة مع الزميل د. شاى فيلدمان حول المبادرة العربية للسلام وكيفية تطبيقها؛ ومعها كان إلقاء محاضرات حول الأمن الإقليمى فى الشرق الأوسط وعلاقته بالأمن القومى الأمريكى. استمرت هذه المحاضرات لعامين متتاليين، ثم بعد ذلك توقفت، واستقرت العلاقة على مشاركتى فى ندوات عن الشرق الأوسط وقضاياه حينما بدأت التدريس كل خريف دراسى فى جامعة «برانديز» اعتبارًا من عام ٢٠٠٥ حتى ٢٠١٨.
خمس سنوات مضت انقطعت فيها العلاقات بسبب الكورونا وما لحقها من أزمات، وعندما عدت مرة أخرى لم يكن «الشرق الأوسط» قد تغير كثيرًا؛ وإذا كان قد تغير فإنه لم يشمل القضية الفلسطينية. الانفجار الذى جرى فى السابع من أكتوبر الجارى وضع الموضوع الفلسطينى الإسرائيلى على مائدة العالم العامرة حتى وقت قريب بالحرب الروسية الأوكرانية. هذه المرة كانت شبيهة بحروب أربع سابقة، من حيث البداية التى يكون فيها «حماس» كبير، ولا تنتهى إلا بعد تدمير غزة وتعريض شعبها وأطفالها لأخطار بالغة. الفارق الآن هو أن الهجمة الأولى التى بدأتها «حماس»، بالإضافة إلى ما سببته من خسائر للآلة العسكرية الإسرائيلية، وما قامت به من اختطاف أكثر من ٢٠٠ عسكريًّا ومدنيًّا، وضعت «نظرية الردع» الإسرائيلية فى اختبار قاسٍ. و«الردع» نظرية شائعة فى التفكير الاستراتيجى تقوم على أن يقوم طرف فى صراع مع طرف آخر بأن يبث فيه من الخوف ما يكفى لكى لا يقوم بشن العنف مرة أخرى؛ هذه المرة لم يكن هناك عنف فقط، وإنما إهانة لكبرياء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. ولعل ذلك يفسر ما بات معروفًا الآن أن العسكريين الإسرائيليين هم الأكثر تحمسًا لضرورة التدمير الكامل لتنظيم حماس، والسيطرة الكاملة على قطاع غزة، بعد قص أظافرها كاملة. أصبح لا يوجد هدف للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية يفوق استعادة الردع إلى ما كان عليه.
ندوة هارفارد انعقدت، فى الوقت الذى بدا فيه وقف إطلاق النار لا يُطرح، بينما مرور المساعدات إلى غزة يتم بمعدلات بطيئة وصغيرة، وفى الوقت ذاته تتصاعد كل أرقام تدمير المدينة من حجر وبشر. وأخذت الندوة مسارين للخلاص، أولهما السعى إلى وجود «كونسورتيوم» عربى يدفع فى اتجاه إخراج «حماس» من المعادلة، بينما يدفع فى اتجاه عودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى ممارسة أعمالها فى القطاع، مع مساعدتها بقوات عربية تضمن الأمن وتساعد على لضم الجراح. وثانيهما أنه على ضوء الموقف الراهن بين الشعب الفلسطينى، فإن استطلاعات الرأى تشير إلى تأييد كبير لتنظيم حماس، وأن هذه الأخيرة كانت لها علاقات وثيقة مع حكومة نتنياهو، الذى حمل المعونات القطرية إلى القطاع، باعتبار ذلك يعمق إلى الأبد انقسام السلطة الفلسطينية بين القطاع وغزة. ومن ناحيتى كانت هناك وجهة نظر ثالثة قوامها الدول العربية، التى عقدت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وتلك التى كانت حتى نشوب الأحداث الأخيرة تتفاوض على تطبيع العلاقات بينها وبين إسرائيل. هذه المجموعة من الدول، فضلًا عن أنها تتبنى إصلاحات داخلية عميقة، فإنها بإمكانها وضع استراتيجية للمنطقة تحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، مع «استيعاب» إسرائيل فى المنطقة.
الإجماع كان على أنه لا يوجد حل واحد للقضايا المعقدة، ولكن الثابت أن الثمن المدفوع حتى الآن فادح؛ وأنه ربما لا تكون آفاق ما يجرى الآن تقود إلى الانفراج والسلام، وإنما إلى حرب إقليمية ضروس، ربما مثلها مثل الحرب الروسية الأوكرانية، تنتقل من عام إلى آخر، وتصبح نوعًا من المعتاد الدولى الجديد.