قبل أيام كان يوم خروج آخر جندى إسرائيلى من سيناء المقدسة، لم تبق مطارات ولا مستعمرات، وفى طابا جرت ملحمة أخرى. أصبحت سيناء حرة، ومع حريتها بات الحديث عن تعميرها حديثًا سنويًا. أذكر أنه أثناء وجودى فى مجلس «الشورى» أن قامت لجنة بقيادة رجل الأعمال النبيل محمد فريد خميس بإعداد خطة لتعمير سيناء، وعندما بحثت كانت الخطة الحادية عشرة.
وقتها كان «مجلس الشعب» قد أعد خططه هو الآخر، ولم تكن «المجالس القومية المتخصصة» أقل حماسًا من الآخرين، وبالتأكيد فإن الحكومات وقتها لم تتردد فى رسم الخطط وإقرار المشروعات؛ ولعله لم تكن هناك خطط للتعمير فى مصر أكثر من تلك التى خصت سيناء بالاهتمام والحديث الوطنى والخطط العمرانية. أذكر منها أن نقابة الصحفيين أرادت المساهمة فى هذا الزخم فأعلنت عن بناء مدينة «الفيروز» فتسابق الصحفيون فى المشاركة دافعين قيمة القسط الأول، ومن وقتها لم أعرف ماذا حدث لا للمدينة ولا للمال. وحين مضى أكثر من عشرين عامًا على التحرير لم يكن تحقق الكثير حتى جاءت الإدارة الحالية لمصر التى بدأت مسيرة التعمير الكبير فى مصر كلها، وخاصة سيناء.
البداية كانت عندما جرى إنشاء الفرع الجديد لقناة السويس، وخلال عام واحد فقط جرى تغيير معنى الزمن فى مصر. وبعدها مباشرة جرى تنفيذ حلم آخر للربط بين سيناء ووادى النيل عن طريق ستة أنفاق عظمى انفتحت على شرايين تربط بين ما يجرى فى وادى النيل وما يحدث فى شبه الجزيرة المجيدة. باختصار، وخلال عشر سنوات فقط جرى بناء البنية الأساسية على الجانبين، ومعهما سلسلة من المدن الجديدة والموانئ والمطارات واستصلاح الأراضى وأقاليم سياحية جديدة عند «الملتقى الأعظم» المكمل للوادى المقدس طوى ودير سانت كاترين فى الجنوب؛ وفى الشمال الشرقى باتت مدينة طابا مهيمنة على إقليم كامل شمال خليج العقبة ومعه البحر الأحمر.
لم تكن المسيرة سهلة خلال هذه السنوات، فقد كان ذلك كله يجرى بينما العناصر الإرهابية تنتشر معتمدة على دعم كبير من تنظيم حماس عبر أنفاق تحت الحدود لكى تنقل السلع المصرية المدعمة، والسلاح، والإرهابيين الحاصلين على التدريب فى غزة، والتمويل أيضًا. وعندما انتصرت مصر على الإرهاب بدأت سلسلة من «حروب غزة» التى صارت على سيناريو واحد تبدؤه حماس والجهاد بشرارة «مقاومة» تنتهى دائمًا بحريق وتدمير إسرائيلى، وتقوم مصر بعد ذلك بواجبها فى السعى نحو إيقاف النار، وفى أعقابه تبدأ عملية التعمير. حرب غزة الخامسة المستمرة باتت الأكثر قسوة وعنفًا؛ وقبل أن تنتهى أو يظهر فيها بصيص أمل لوقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل من الأراضى التى أعادت احتلالها عدة مرات فإن الغرض الإسرائيلى بات جليًا فى نكبة جديدة للفلسطينيين تقوم بتفريغ القطاع من سكانه. الولايات المتحدة بقيادة ترامب لم تتوانِ عن طرح فاضح بمطالبة مصر والأردن بالاستجابة لطرح «التهجير» الذى يؤيد بأشكال شتى الجهود الاستراتيجية الإسرائيلية التى تطبقها حكومة فاشية.
مرة أخرى، وعلى نطاق واسع، دخلت مصر دبلوماسيًا وسياسيًا فى طرح البديل للخطط الأمريكية، والاندفاع الإسرائيلى بالسلاح والإغراء، بطرح مشروع لتعمير سيناء على نطاق واسع يحافظ على تواجد الفلسطينيين فى وطنهم أثناء عملية البناء. المشروع شاركت فيه هيئات حكومية مصرية؛ ولم تتوانَ عن تقديم الأفكار كفاءات معمارية مصرية، أحدها جاءنى من الصديق المهندس الدكتور أيمن إسماعيل تحت عنوان: «دعوة إلى العمل من أجل إعادة الإعمار المستدام والنمو الاقتصادى».
وفى افتتاحية الملخص التنفيذى جاء ما يلى: «تواجه غزة تحديات غير مسبوقة فى أعقاب الصراع فى أكتوبر ٢٠٢٣، مع أضرار جسيمة فى البنية التحتية والإسكان والاقتصاد. إن إعادة الإعمار تتطلب ما بين ٥٠ إلى ٨٠ مليار دولار، ولكن العوائق النظامية- عدم الاستقرار السياسى، ونقص التمويل، والاختناقات اللوجستية- تتطلب نهجًا استراتيجيًا مرحليًا. تجمع هذه الخطة بين خطة عدالة لإعادة بناء غزة على نطاق واسع (على غرار خطة مارشال) مع الإنعاش الاقتصادى القاعدى للتضامن مع غزة (المستوحى من صندوق التضامن البولندى)، مع إعطاء الأولوية للقطاعات ذات التأثير العالى مثل المنسوجات والزراعة والطاقة المتجددة.
ولتسريع إعادة إعمار غزة، تشمل الأولويات الفورية تأمين ٥ مليارات دولار من المساعدات الإنسانية، وإنشاء هيئة إعادة إعمار غزة تحت إشراف الأمم المتحدة، وإطلاق منطقة اقتصادية خاصة بالشراكة مع مصر والأردن لتعزيز خلق فرص العمل. ولابد من توسيع نطاق الوصول التجارى من خلال الاتفاقيات الإقليمية، فى حين ينبغى الاستفادة من مصادر التمويل البديلة مثل مجموعة البريكس والمستثمرين الخليجيين للحد من الاعتماد على المساعدات الغربية. الشفافية هى المفتاح- ولابد من تنفيذ تتبع الأموال القائم على تقنية «البلوك تشين» لاستعادة ثقة المانحين، إلى جانب صندوق تضامن بقيمة ١٠ مليارات دولار لتمكين الصناعة المحلية.
المشروع المصرى الذى صار مع القمم الدولية «عربى» و«إسلامى» حقق نقطة تحول فى الهجمة الإسرائيلية والأمريكية أولًا من زاوية أن هناك بديلًا لما كان يُعتقد أنه مستحيل؛ وثانيًا أن المشروع عضد من ساعد الجماهير الفلسطينية التى أعطته التأييد الفورى بمسيرتها ليس فى اتجاه الحدود المصرية، وإنما فى العودة مرة أخرى فى مسيرة ملحمية إلى الشمال حيث مدينة غزة. باختصار جرى إحباط مشروع التفريغ السكانى لغزة الذى هو جزء لا يتجزأ من مشروع فاشى أكثر شمولًا لتفريغ أرض فلسطين كلها من كل ما هو فلسطينى.
هكذا يظهر البعد «الديموغرافى» فى الاستراتيجية الإسرائيلية ليس فقط بتفريغ فلسطين من سكانها، بل إنها تشير إلى مشروع أكثر شمولًا لتغيير «الشرق الأوسط». الغريب أن يحدث ذلك بينما سقف الديموغرافيا اليهودية لا يزيد على سبعة ملايين ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط ويقابلهم سبعة ملايين فلسطينى، وفى خارج إسرائيل فإن العدد الكلى لليهود أقل من ١٥ مليونًا. المقاومة الحق لهذه الاستراتيجية التى يتبناها اليمين الإسرائيلى المتطرف لا تحدث ما لم يتم تعزيز الواقع الفلسطينى بالبقاء على الأرض الفلسطينية وحتى داخل إسرائيل نفسها. التعمير فى سيناء وفى غزة والارتباط بالمشروع التنموى السعودى فى منطقة «العلا» شمالى غرب المملكة العربية السعودية هو الذى يحقق حائط الصد للمشروع الإسرائيلى.
مثل ذلك هو الذى يعيد تشكيل الشرق الأوسط كله مرة أخرى حيث البديل للحرب والتطرف الدينى- الإسرائيلى والفلسطينى- هو منطقة للعمران والبناء فى شمال البحر الأحمر تستفيد من آفاقه السياحية الفريدة ويربط ما بين الأراضى المقدسة فى القدس وسيناء ومكة المشرفة والمدينة المكرمة. فى هذا الإطار فإن ما تقدم قبل سنوات من إقامة الجسر الكبير بين السعودية ومصر لن يربط فقط بين دول المنطقة، وآسيا وإفريقيا، وإنما بين مشروعات كبرى للبناء والتعمير والجامعات الكبرى والمدن الجديدة لكل من يريد السلام والبناء وليس الحرب والقتل والتدمير.