بقلم: عبد المنعم سعيد
ما يلى هو مشاركتى، قبل أسبوع- مع بعض الاختصار- في افتتاح المؤتمر الثقافى في مكتبة الإسكندرية: ما الذي يمكن للمثقف أن يبدأ به في مؤتمر للمثقفين؟، ما الذي يمكن أن يسأله في عالم وإقليم ووطن أشد تعقيدًا وتركيبًا؟. ببساطة، إننا أشبه بالأعمى، الذي يحاول قياس أبعاد مكعب الثلج وهو يذوب بين أصابعه؟!، هناك طريقان يمكن السير فيهما: أولهما أن نمضى في قراءة حالة العالم والإقليم ومصر، ونستقرئ منها إجابة عن السؤال: ما الذي جرى؟، ثم إجابة عن السؤال الآخر: إلى أين نذهب؟، وثانيهما أن نعود إلى أصول المسألة.
الفكرة هنا أن المهم هو أن التنظيم الاجتماعى والاقتصادى والسياسى يكون من الفاعلية والبساطة، بحيث يستوعب وينظم حياة الناس. «النانو» تكنولوجى جاءت حتى تُصغر الأشياء وتجعلها أشد بساطة، وفى يوم من الأيام كان أول كمبيوتر يحتل عمارة كاملة، والآن انظر إلى تليفونك المحمول. كل ذلك لأن الأمور المعقدة أصبحت أشد بساطة، والأشياء الكبيرة أصبحت صغيرة بنفس الطاقة أو أكبر، أصبح الكبير والصغير مسألة يتحكم فيها الإنسان حسب الظروف. ومنذ سنوات، زرت معرض المنتجات المستقبلية لشركة باناسونيك اليابانية، فوجدت مخترعات خارقة للعقل، وحينما سألت: كيف تم ذلك؟، قيل لى لأننا- أي العلماء- أصبحنا أشد بساطة الآن.
البساطة والتبسيط كانا دائمًا من أسرار التقدم، ويحكى العلماء دائمًا كيف أنهم عندما يكتشفون شيئًا ينبهرون لأنهم لا يعرفون لماذا لم تكن هذه الفكرة الجديدة أول ما خطر ببالهم نظرًا لبساطتها المذهلة. اكتشفت فارقًا بين التقدم والتخلف، حيث الأول ينحو إلى التبسيط، أما الثانى فيميل إلى التعقيد. وعندما زرت طهران ذات مرة، قال صديق إيرانى بفخر شديد إن العقل الإيرانى مثل السجاد الإيرانى (العجمى بلغة العرب)، فيه من الدوائر والمربعات والخطوط ما يجعله معقدًا وعصِيًّا على الفهم للآخرين. وساعتها لم تكن مشكلتى هي عما إذا كان الأجانب يفهمون العقلية الإيرانية أو أن هناك حكمة في ألّا يفهمك الآخرون؛ ولكننى لم أكن متأكدًا أن الإيرانيين يفهمون عقلياتهم. وكذلك الحال مع العرب، وعندما عدت من الولايات المتحدة عام ١٩٨٢ وجدت عاصفة في مصر حول «التمويل الأجنبى» للبحوث عن مصر، وكانت تحت عنوان: «وصف مصر بالأمريكانى»، وكان ذلك مقاسًا على كتاب «وصف مصر»، الذي نتج عن الغزو الفرنسى، وأصبح الوثيقة الأولى في معرفة البلاد المصرية مع مطلع القرن التاسع عشر. أيامها، كان المنطق أن التمويل الأمريكى لمراكز البحوث يعنى أن يعرف الأمريكيون عنّا كل شىء، وكان سؤالى هو عما إذا كنا نحن نريد أن نعرف عن أنفسنا كل شىء.
إذا كان هناك أمر تعلمناه فهو أن عام ٢٠٢٢ سوف يكون الذي فشلت فيه كل النظريات التي عرفناها في دراسات العلاقات الدولية في تفسير ما يحدث، فضلًا عن التنبؤ بما سوف يلى. وكل المؤشرات إلى عام ٢٠٢٣ تشير ليس فقط إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية سوف تكون مستمرة لعام آخر، بل تدخل الحرب إلى نطاقات أشد خطورة. وفى إقليمنا، قد تبدو كلمتا الثورة والإصلاح متناقضتين بحكم ما هو معروف عن الأولى من مترادفات شعبية وراديكالية وجذرية؛ والثانية نخبوية وتدريجية لا تعترف بحرق المراحل، ولا بالسير في قفزات كبيرة. ولكن التجربة التاريخية ترشد إلى أن العلاقة بين المفهومين قائمة في أن كليهما معنى بالتغيير، ورفض الأمر الواقع، القائم على الجمود أو الذي تعدَّتْه حكمة الزمن.
إن الإصلاح حتمى وجذرى أيضًا لأنه لم يكن ممكنًا أن يبقى الحال على ما هو عليه. لحظة الثورات في المنطقة العربية جاءت مع ما سُمى «الربيع العربى»، الذي حقق الكثير من الفوران والفوضى وعددًا من الحروب الأهلية، وولّد دولة إرهابية للخلافة الإسلامية. ولكن عام ٢٠١٥ شهد الكثير من التطورات التاريخية في المنطقة، والتى لا يزال بعضها عاكسًا لانهيارات ما بعد الثورات؛ ولكن بعضها الآخر ولّد موجات من الإصلاح،، القائم على مفهوم الدولة الوطنية ذات الحدود المقدسة، والهوية التاريخية لمواطنين متساوين في الحقوق، ومشروع وطنى غلاب للتنمية والتقدم الاقتصادى والاجتماعى.
أطلقت الدول العربية، التي تمكنت من الصمود في وجه عاصفة الربيع، عمليات إصلاح واسعة النطاق برؤى وضعت عام ٢٠٣٠ هدفًا لتحقيقها. وما يعنيه هذا، في النهاية، هو أن الدول التي اختارت الإصلاح الشامل قد وضعت أقدامها على بداية طريق القرن الحادى والعشرين. ويسير مسار الإصلاح في عدد من الدول العربية، ليس بنفس الطريقة أو وفق نهج أو أيديولوجيا واحدة، بل في إطار السياق التاريخى الخاص بكل مكان. ولكن ما جمع الدول العربية كان مجموعة من السمات، كانت أولاها التأكيد على «الدولة الوطنية» باعتبارها الوعاء الذي يحتوى جميع المواطنين مهما تنوعت توجهاتهم، وكان ذلك إلى حد كبير «ثورة» في التفكير العربى يضع الدول العربية أخيرًا فيما حدث في التاريخ الإنسانى، وشكّل ما بات معروفًا بـ«الدولة القومية» أو Nation State، التي باتت أساس النظام الدولى.
وفى مصر، كان طريق الإصلاح يقوم على الانتقال «من النهر إلى البحر» فيما يخص التنمية، بحيث تنتقل إلى البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، فتكون دولة بحرية بكل ما يعطيها البحر من آفاق وحضارات. لم يكن في ذلك ما يستنكر علاقة مصر مع النهر الخالد، أو حتى المشاكسة مع «هيرودوت» عما إذا كانت مصر هبة النيل، أو أن مصر كانت هبة للمصريين، وإنما هو اختبار لهذه المقولة، فإذا كانت مصر كذلك، فإن المصريين قادرون على الخلاص، فلماذا لا يكون ذلك في اتجاه الشرق حتى البحر وتفريعاته حول سيناء في خليجى السويس والعقبة؛ أو نحو الشمال والغرب التحامًا والتصاقًا بما هو ممتد ولا نهائى: البحر؟.
الفارق بين الدول المتقدمة والأخرى التي ليست كذلك أن الأولى يقوم تقدمها على إدارة الثروة بالتعبئة المستمرة للموارد البشرية والمادية؛ أما الثانية فتقوم حالتها على إدارة الفقر، حيث يجرى تحصين الفقراء داخل فقرهم، مع تقديم العون والحصانة لبقية المجتمع لتأخير ساعة السقوط إلى وهدة الفقر. إحدى علامات ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ أنها اختارت طريق الحداثة، الذي لابد له من المرور بعملية صعبة وشائكة لتنمية الثروات المصرية، بما يجعلها قابلة للاستدامة والاستمرار والاندماج في العالم المعاصر بآفاقه التكنولوجية والإبداعية.
إن ما نشهده في مصر الآن هو في التجربة الإنسانية رأس جبل الثلج الظاهر، لكن هناك ما هو غير مرئى، وتتولد معه أشكال من التقدم في العلوم والنظام الإدارى للدولة. إن الاختبار المطروح على المصريين في أوقاتهم الصعبة الحالية هو: هل يريدون لمصر أن تكون دولة متقدمة عظيمة ومعاصرة أم لا؟، أم أن ذلك مؤجَّل حتى يأتى جيل آخر أشد شجاعة وحكمة؟. الإجابة عن السؤالين تكون بسؤال آخر: هل حدث في أمم من قبل أن حصلت على التقدم والعظمة بثمن يقل عن آلام قاسية، وتضحيات عظيمة!.