بقلم - عبد المنعم سعيد
كما أتصور، إذا كان النموذج المصرى فى التنمية يسير فى أثر التجارب الآسيوية خلال العقود الأربعة الماضية، فإن ما يعانيه المصريون الآن من ارتفاع الأسعار وما يسببه من شقاء، هو خطوة طبيعية على طريق التقدم الذى واحدة من مفرداته الرخاء، أو ربما اليسر والستر. فى جميع التجارب التى سبقتنا والتى تراوح نضجها وقدرتها على الانتقال من بين صفوف الدول النامية إلى صفوف الدول المتقدمة خلال عقدين أو أربعة عقود عاشت فترات قاسية تراوحت ما بين فقدان أجيال بأكملها، وتحمُل ثمن كبير من الحرمان والشظف، وفى كل الأحوال العمل الشاق الذى فيه كثير من العرق والدموع. فى تجربتنا المصرية المعاصرة منذ ١٩٥٢ كان الخوف من هذا الثمن هو سبب التردد المستمر فى خوض معركة التقدم الكبرى لإقامة دولة عصرية متقدمة وواقفة فى صفوف الدول القوية والغنية تليق بمكانتها وحضارتها التاريخية. وأحيانا استعضنا عن «ثمن التقدم» بتصور يقوم على أن سبب تخلفنا التاريخى هو الاستعمار، فإذا ما تخلصنا منه فإننا سوف نصل إلى ما نصبو إليه. وعندما انتهى الاستعمار وجرى الجلاء أصبح الاستعمار «الجديد» المختفى فى أردية وأزياء جديدة هو المشكلة.
لم يكن ذلك حال كل المصريين، وبالتأكيد لم يكن حال الذين فكروا فى تجديد الفكر، أو الذين طالبوا بالمساواة والمواطنة، أو الذين أنشأوا البنوك أو أقاموا الصناعة والجامعات، لكن كل هؤلاء لم ينصهروا فى بوتقة مشروع واحد مثابر وصابر وداعٍ إلى دفع «ثمن التقدم» الذى لم يكن أبدا أقل أهمية عن «ثمن التحرر والتحرير». وفى اتجاه آخر تسرب فكرنا إلى أفكار غيبية فيها الكثير من الشعوذة والاستدراج إلى أن الخلاص لا يكون حقا إلا فى العالم الآخر، وعندما عز علينا التقدم التكنولوجى جرى حل المسألة بأن الله سخر لنا آخرين لكى يقوموا بهذه المهمة!. أى من هذه المعادلات لم تأخذنا إلى الأمام خاصة مقارنة بأمم أخرى سرعان ما سبقتنا وفاتتنا؟.
مناسبة الحديث هى أننا أمام موقف يبدو متناقضا فى داخله: على جانب يوجد مولد «جمهورية جديدة»، وفى جانب آخر يوجد الشقاء وترجمته ارتفاع الأسعار وضغطها، وفى جانب ثالث الحقائق تقول إننا نحقق منجزات رائعة فيما يتعلق بالنمو الاقتصادى وصلت إلى ٩٪ خلال النصف عام الأخير. أصبح كما ذكر دولة رئيس الوزراء مصطفى مدبولى مؤخرا تحقيق ٦٪ معدلا سنويا للنمو فى متناول اليد، وهو الذى بدا عصيا من قبل. فى الذهنية الشعبية و«الفيسبوكية» مؤخرا، ولا بأس من تزكية إخوانية فى هذا الشأن، يصبح السؤال: ما معنى أن ننمو ونحقق أمورا هائلة وعملاقة على الأرض، بينما تزداد الضغوط وترتفع الأسعار؟ وفى لحظة تبدو المعضلة ملتصقة بأصحاب الدخول الثابتة، ومن ثم تقرر الدولة تقديم ٤٠ مليار جنيه لتحسين أوضاع موظفيها فى مواجهة التضخم رغم ما هو معروف أن هذه الزيادة سوف تساهم فى تضخم آخر.
حصر القضية كلها داخل هذا الوعاء يخرج بها عن الطريق القويم لهدف بات تاريخيا للمشروع الوطنى الذى يشمل الجميع. وللأسف فإن لدينا ندرة فى البحث الذى تطرح فيه أسئلة من نوع كيف يتعامل أكثر من خمسة ملايين عامل يشاركون فى المشروعات المصرية الجديدة خلال السنوات السبع الماضية مع ظاهرة التضخم وارتفاع الأسعار هذه؟. والسؤال: هل الضغوط كما هى فى كافة المحافظات المصرية، أم أن المحافظات الأكثر نموا أقل تضررا وشكوى من تلك الأقل نموا؟. والسؤال أيضا: كيف تتكيف المجتمعات الجديدة فى مصر والمنتشرة على ساحل البحر الأحمر وسيناء وتوشكى ومطروح والمدن الجديدة فى معظمها القديمة والحديثة؟ الهدف من هذه الأسئلة هو البحث عن كيفية التكيف مع التقدم لأنه ليس بالضرورة مؤديًا إلى «السعادة»، وإنما المؤكد أنه يؤدى إلى حياة أفضل لا يوجد كثيرون يتذكرونها، لم يكن فيها الكهرباء والغاز والمياه النقية وسهولة الانتقال.
الحقيقة، وهى جوهر التقدم، أن الحياة الأفضل ربما تفضى إلى نوعيات جديدة من الضغوط وحتى الشقاء. عشت فى الولايات المتحدة تلميذا وأستاذا، وكانت الملاحظة الكبيرة على الزملاء أن الضغوط لا تنفض، فالمنزل الكبير له تبعاته من حيث الأقساط، والعربة ومستلزماتها من تأمين وأقساط أيضا، ورغم التعليم المجانى فى جميع المراحل ما عدا الجامعية، فإن له تكلفته لأن تفتح ذهن التلاميذ يحتاج إلى كتب ورحلات ومعسكرات ودروس فى الموسيقى. هناك بعض من هذا باتت له مظاهره فى مصر، لكن قصة النمو والتقدم فيها لا تكتمل إلا عندما يصل الجميع إلى هذه المرتبة أو يقتربون منها أو تتغير الحالة نسبيا عن أى يوم سابق. جهود الدولة المصرية تأخذنا فى هذا الاتجاه لأننا، بدرجة كبيرة من الجهد، نحاول تطبيق هذا النموذج الآسيوى، لكننا للأسف لا نأخذه بكامله. وفى يوم من الأيام كان تعويم الجنيه المصرى من توصيات الشيطان التى تهدد السلم العام، لكن الثابت أن الشعب المصرى كان على استعداد للمضى قدما طالما أن ذلك سوف يأخذنا إلى السير فى طريق أمم متقدمة قبلنا. والآن يبدو عدد من القضايا المعلقة والواقعة فقط فى الدول غير الطبيعية واقفا فى مواجهة التغيير الشامل مثل قضيتى الخبز وإيجارات المساكن القديمة.
إذا سرنا كما كنا نسير فى السابق فإن النصيحة البيروقراطية سوف تكون بعد مقدمة فلسفية عن الناموس العام للشعب المصرى أن يكون حل المشكلة متدرجا (كانت هذه هى النصيحة الشائعة ساعة تعويم العملة)، قرشان زيادة أو حتى خمسة قروش لن تحل معضلة أن تكلفة الرغيف ٦٥ قرشا، ما سوف يحلها هو تحرير تجارة الخبز كلها. والثابت أن السلعة محررة فعلا لقطاعات غير قليلة من الشعب المصرى لأن السلعة متنوعة، وهناك وسائل كثيرة للوصول إليها. هنا فإن القضية لم تعد الخبز وإنما التعامل مع الفقراء بوضعهم فى دائرة الحماية الاجتماعية، ليست فى الخبز وليست فى السكن، وإنما فى تقديم ما يلزم للحياة بما فيها من عمل وتعليم والمساعدة فى حالات قاسية. وتحرير السكن لا يختلف عن الخبز، وعندما يكون فى دولة ١٠ ملايين وحدة سكنية مغلقة وفارغة، فإن القضية لا تكون إدارة الفقر بقدر ما هى إدارة الثروة العقارية وكيفية تشغيلها إيجارا وملكية.
الحقيقة هى أن النمو والتنمية عمليتان معقدتان، والدولة تقوم بواجب تاريخى فى مشروعها الوطنى وهى تسبق إلى عام ٢٠٣٠، وعليها أن تستمر فى طريقها ربما بعنفوان أكبر عندما تترك المعتاد القديم فى كل المجالات وتسير فيما تسير فيه حيث إدارة الثروة جارية فى كل المجالات، ومن قبل القطاع الخاص بقدر ما هى جارية من الدولة. السنوات السبع الماضية فيها الكثير الذى يؤدى إلى تحية الرئيس والحكومة، وربما آن الأوان لتحية الشعب المصرى أيضا، وفى مجال كرة القدم فإنهم ينصحون اللاعبين بعدم متابعة شبكات التواصل الاجتماعى حتى يوفروا قواهم وتركيزهم من أجل الفوز فى المباراة!.