بقلم - عبد المنعم سعيد
لم تَخْلُ الفترة القصيرة الماضية، وتحديدًا منذ نشوب حرب غزة الخامسة، من عجب كثير يخص مصر المحروسة، التي انتقل نصيبها من دور إقليمى نافذ من أجل حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة؛ إلى دور دفاعى ملحوظ يؤكد ضرورة الدفاع عن أمن الدولة القومى. التهديد المباشر يأتى من إسرائيل بالسعى الملحوظ والمعلن عنه في «هاآرتس»، التي نقلت عن المخابرات الإسرائيلية، كيف أن الدولة العبرية تسعى إلى نكبة أخرى قوامها الدفع بسكان غزة إلى الأراضى المصرية لكى يعيشوا في مدينة الخيام، ومن بعدها تتحول الأقمشة إلى خرسانة مسلحة وزمن غير محدود لم يكن لمصر فيه رأى ولا قصد ولا حظ. لم تكن إسرائيل وحدها التي تسعى لهذا السيناريو، فقد وجد الفلسطينيون في القطاع أيضًا ما يخلب لبهم للخلاص من المحرقة الإسرائيلية بالذهاب إلى سيناء في خيام أو بيوت لا فرق؛ وفى وقت من الأوقات قام ثلاثة أرباع مليون فلسطينى باختراق الحدود المصرية إلى سيناء. قوى دولية متعددة هي الأخرى أرادت الخروج من صداع القضية، التي لم يكن لها حل في الماضى، ولا تُنتظر لها نهاية في المستقبل المنظور، وأن تجد مخرجًا لها بأن تعطى من اللحم المصرى الحى مقامًا ووطنًا. لم تكن هناك مبالغة عندما عرفت القيادة المصرية الموقف بأنه تهديد للأمن القومى؛ ولا كانت متجاوزة عندما حشدت قوات مصرية مصاحبة بقبضة حديدية للفرقة الرابعة المدرعة. لم يكن ممكنًا الإعلان عن الأمن القومى دون مصداقية في الحشد والتعبئة، التي يمكن بعدها الإعلان عن مشروعات تنمية سيناء، التي ربما تكون بيت القصيد خلال المرحلة المقبلة، والتى لم تعد مجرد امتداد لفلسفة المشروع الوطنى المصرى ببناء الدولة ونشر أشرعتها التنموية من النهر إلى البحر، وفى حالة سيناء إلى الخليجين- السويس والعقبة- أيضًا. الأمر بقى فوق كل ذلك خطيرًا خطورة أيام سابقة، نسأل الله ألّا تعود.
كانت هزيمة يونيو ١٩٦٧ نقطة فاصلة في التاريخ المصرى من حيث كشفها عن التفاوت ما بين القدرات والإمكانيات المصرية الفعلية والتوسع الضخم في الأهداف المصرية الدولية والإقليمية. ورغم الإنجازات التي أحرزتها مصر في حربى الاستنزاف (١٩٦٨- ١٩٧٠) وحرب أكتوبر ١٩٧٣ وتحريرها كامل التراب الوطنى بعد معاهدة السلام مع إسرائيل، فإن مصر خرجت من التجربة منهكة، وكانت مظاهرات الخبز عام ١٩٧٧ واغتيال الرئيس السادات ١٩٨١ مؤشرًا على هذا الإنهاك، واعتراضًا على عملية الإصلاح التي حاول الرئيس السادات القيام بها من خلال سياسة الانفتاح الاقتصادى. ومن مفارقات هذه المرحلة أن حرب أكتوبر غيّرت الكثير من موازين القوى الإقليمية عندما رفعت أسعار البترول، التي سرعان ما أعطت الدول الإقليمية، عربية وغير عربية، قدرات كبيرة تجاوزت بسرعة ما لدى مصر من إمكانيات، وبدأ ميزان القوى في المنطقة ينتقل إلى منطقة الخليج.
حاولت مصر- خلال عقود الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى والعقد الأول من القرن الحالى- أن تقوم بعمليات إصلاح جادة، ولكن التردد والبطء والخوف من اتخاذ القرارات الصعبة أدى إلى حالة من «الانكماش الاستراتيجى»، التي جعلت مصر تنسحب من مجالات إقليمية ودولية كثيرة، دون أن تصاحب ذلك صلابة في الإصلاح الداخلى وبناء عناصر القوة المصرية. نتيجة ذلك كانت أولًا حالة كبيرة من الخلل الإقليمى الكبير، الذي ترتب على ظاهرة ما سُمى الربيع العربى، التي كانت «ثورة يناير ٢٠١١» المصرية، وتبعاتها حتى «ثورة يونيو ٢٠١٣» من أهم سماتها. ثانيًا أنه نتيجة هذا الخلل الاستراتيجى أن الدول الإقليمية- إيران وتركيا وإسرائيل- انتهزت الفرصة، وأخذت في مد توسعاتها في النفوذ والأرض؛ ومعها، فإن القوى الدولية الأخرى، خاصة روسيا والولايات المتحدة، تدخلت هي الأخرى. ثالثًا أن الفراغ الذي نجم عن الخلل الكبير في الإقليم أنتج كيانات سياسية من غير الدول، تمثلت في حركات سياسية عابرة للحدود، مثل جماعة الإخوان المسلمين والقاعدة و«داعش»، التي نجحت في خلق دولة «الخلافة الإسلامية» على الحدود العراقية السورية، والتى نجح تحالف دولى متعدد الأطراف في تدميرها. هذه الكيانات ولدت العديد من الكيانات الأخرى المنشقة، التي كانت جميعها ذات طبيعة إرهابية، ومثلت تهديدًا للدول العربية، وخاصة الدولة المصرية.
وسط هذه الأشكال المتعددة للخلل الداخلى المصرى والخلل الخارجى الإقليمى، كانت «القضية الفلسطينية» محرابًا للاستغلال من قوى متعددة، وجدت فيها مثالية في عزفها على مشاعر وعواطف دينية؛ وقدرتها الدائمة على خلق انفجارات كافية لتهديد توازنات قائمة، وسعى توازنات جديدة للإحلال مكانها. لم تكن حرب غزة الخامسة وحدها التي جرى عليها العد من حرب إلى أخرى، وإنما التبست معها حروب صغرى وكبرى جرَت في لبنان وسوريا والعراق والضفة الغربية. في وسط ذلك كله كانت مصر دائمًا مدعوة إلى الحساب والتقييم؛ وكان ذلك مفهومًا على ضوء طبيعة العلاقات الإقليمية الدولية؛ ولكن ما لم يكن مفهومًا كان عمليات الاحتشاد الداخلية في استدعاء ظروف مرت عليها عقود طويلة نالت مصر بعدها دروسًا قاسية. خلال الأزمة والحرب الراهنة، انفجرت موجات من الإخوان المسلمين والناصريين والقوميين لكى تلهب ظهور مصر كلها بسياط لعلها تدفع بها إلى مواجهات قادت من قبل إلى كوارث استراتيجية كبرى. أحيانًا يبدو المطلوب بسيطًا لا يزيد على عنتريات وحنجريات تبدو معتادة ولمجرد مراعاة مقتضى الحال؛ ولكنها في الواقع عندما تؤخذ بجدية تليق بمصر فإن الكلام يكون له ثمن كبير وأحيانًا فادح. وفى وقت من الأوقات، تختفى القصة المصرية، وكأنه لم يكن هناك مشروع وطنى، ولا معاناة اقتصادية تحتاج إلى مواجهة، ولا يعود أمام مصر إلا الإمساك بتلابيب قضية انقسم أهلها عليها، بحيث تناوبوا حروبًا بات لكل منها رقم.
«تعمير سيناء» وإطلاق مشروعاتها الزراعية والصناعية والسياحية مثّل نوبة صحيان من الغيبوبة الإقليمية لأنه يوقظ على كل ما لا يزال ناقصًا في المشروع الوطنى كله خلال سنواته القادمة من «رؤية مصر ٢٠٣٠». من كل النواحى «الجيو سياسية» و«الجيو اقتصادية» و«الجيو ثقافية»، فإن سيناء تمثل درة تاج مصرية اختلطت رمالها المصرية بدماء المصريين. ولم تكن في تاريخها مصادفة مسارات الأنبياء والرسل والرسالات والتجليات العظمى، التي ربما تهدينا إلى أن نجعل شبه الجزيرة في تنميتها أشد تحررًا وانطلاقًا، بحيث تجذب المصريين من الدلتا والوادى إلى عالم ساحر مكون من ثروات متعددة. هنا لن تكون سيناء محض درع لحماية مصر من الغزو الخارجى؛ ولكنها سوف تمثل جسورًا كثيرة، فعندما كنا نفخر بشدة بأن مصر ملتقى ثلاث قارات، فإن الحقيقة الجغرافية تشهد أن سيناء هي التي تمثل مقدمة هذا الالتقاء، الذي مع قدر من الخيال يحولها إلى قدرات فذة على التأثير. كما تعودنا أخرجوا المشروعات التي نعرفها لكى تكون كما حدث من قبل حقيقة واقعة؛ وهذه المرة يكون فيها الكثير من بشر مصر.