الموجة الجديدة من الحراك العربي

الموجة الجديدة من الحراك العربي

الموجة الجديدة من الحراك العربي

 العرب اليوم -

الموجة الجديدة من الحراك العربي

عبد المنعم سعيد
بقلم : عبد المنعم سعيد

يأبى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين أن يذهب دون أن يدخل بنا إلى موجة جديدة من الحراك الجماهيري في دول عربية أطلق عليها الإعلام الغربي اسم «الربيع العربي» في البداية، لكن المسمى سرعان ما ذهب مع الرياح الحارة والساخنة للحروب الأهلية وفشل الدولة والزلازل الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.

بشكل ما، فإن الموجة الأولى التي بدأت بين عامي 2010 و2011 لا تزال باقية معنا في شكل حرب طاحنة في اليمن، وأخرى في سوريا، وثالثة في ليبيا؛ بينما نفذت منها الأردن والمغرب بالإصلاحات الدستورية والقانونية، ومصر بالثورة الشعبية والدور القوي للقوات المسلحة الذي قاد البلاد إلى عملية تنمية وإصلاح واسعة النطاق، وتونس بقوة دفع علمانية وديمقراطية.

 وفي ظل هذا التباين، فإن الموجة الأولى ولدت حالة من نقص المناعة العامة في النظام العربي استغلته القوى الإقليمية الأخرى، خصوصاً إيران، وتركيا، وإسرائيل، وإثيوبيا، فخلقت الأولى مجالاً حيوياً في العراق وسوريا ولبنان واليمن من خلال جماعات تابعة مثل الحشد الشعبي في العراق، والنظام البعثي في سوريا، و«حزب الله» في لبنان، والحوثيين في اليمن؛ وفي كل هذه البلدان كان الحرس الثوري الإيراني ينتشر ويعبث. أما الثانية فإنها سعت إلى التدخل لصالح جماعة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا، ثم تدخلت مباشرة عسكرياً وسياسياً في العراق وسوريا، وأخيراً قامت بالغزو المباشر بغية التخلص من عقدتها الكردية في داخلها وفي دول الجوار. الثالثة انتهزت فرصة نقص المناعة وتولي دونالد ترمب للسلطة لكي تدفع باعتراف الدول بالقدس عاصمة لها، وضم الجولان إلى أراضيها، ونشر المستوطنات في الضفة الغربية. الرابعة انتهزت فرصة ثورة يناير (كانون الثاني) المصرية لكي ترسي سداً على النيل الأزرق بهدف خلق أمر واقع مخالف لمبادئ القانون الدولي وقوانين الأنهار الدولية التي ترسي قواعد الحقوق التاريخية.

الموجة الثانية ضمت حزمة جديدة من الدول العربية وجرت كلها في أواخر عام 2018 والعام الحالي (2019)، فإنها شملت الجزائر والسودان والعراق، وأخيراً لبنان.
ما جمع بين الموجتين جوهر كل منهما، وهو قدرة الجماهير على التكتل في جموع كبيرة، سميت «مليونية»، تمارس ضغطها السياسي على النخب الحاكمة، إما لإصلاحها أو الإطاحة بها. لكن ما فرّق بينهما أن الموجة الأولى سقطت فريسة جماعة الإخوان المسلمين وما شابهها من جماعات راديكالية حاولت الوصول إلى الحكم، وعندما نجحت فإنها أنتجت فشلاً كبيراً وعجزاً مروعاً. ونتج من الموجة أيضاً حركات إرهابية كثيرة استغلت حالة الفوضى لتجنيد الشباب في صفوف جماعات متطرفة نجحت واحدة منها «داعش» في إنشاء «دولة الخلافة» على الحدود العراقية - السورية. الموجة الثانية على العكس تماماً، فقد كان التغيير في السودان هزيمة كبرى لـ«الإخوان»؛ ومن الجائز تصور أن الثورة المصرية في 30 يونيو (حزيران) 2013 كانت في جوهرها التحضير للموجة الثانية عندما أطاحت بحكم الإخوان في مصر. وبينما نجح السودانيون في خلق معادلة صحية بين المجلس العسكري والحركة الثورية المدنية؛ فإنهم نجحوا سوياً في وضع أساس للسلام والتعايش السوداني. لكن الموجة الثانية لا تزال في عنفوانها، ورغم أنها نجحت في الجزائر في الإطاحة بحكم عبد العزيز بوتفليقة، فإن الكر والفر بين السلطة والجماهير لا يزال جارياً. في العراق ولبنان، فإن مهمة بناء الدولة الوطنية والتخلص من الهيمنة السياسية والعسكرية الإيرانية تتصدر مطالب الكتل الجماهيرية الضخمة التي تريد تغييراً أكبر وأعمق في طبيعة الدولة ذاتها بحيث تنتقل من الطائفية السياسية، والمحاصصة في الحكم، إلى الدولة الوطنية التي تقوم على أساس المواطنة التي لا تفرق علي أساس الطائفة أو العرق أو المذهب. وفي كل حالات الموجة الثانية من مصر إلى لبنان، فإن الجيش الوطني يبدو ملاذاً أساسياً للحفاظ علي سلمية التغيير، والأهم المحافظة على الدولة الوطنية القادرة على احتكار القوة الشرعية ورفض الميليشيات العسكرية من أمثال الحشد الشعبي و«حزب الله».

ورغم أن الموجتين الأولى والثانية قامتا على محاولة تغيير العلاقة بين السلطة والجماهير، فإنه لم يكن معروفاً بشكل دقيق ما هي وجهة المستقبل في الدولة الجديدة. كانت الآمال دائماً عريضة، والطموحات هائلة، والتصورات مثالية عن الوصول إلى مراتب الدول الغربية المتقدمة، لكن تعريفها وتحديد الثمن المدفوع فيها ظل دائماً غائماً ومائعاً. ومن المدهش أنه في أغلب الأحوال، فإن تجارب التغيير الكبرى منذ الربع الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين لم تكن حاضرة في مخيلة الطلائع الشبابية. فالحقيقة هي أن موجتي التغيير في العالم العربي جاءتا في أعقاب انقلابات عالمية كبرى تجسدت ليس فقط في ثورات تكنولوجية كبرى، وإنما فيما تبعها من تغيرات. فخلال العقدين الأخيرين انتقل أكثر من مليار من البشر من الفقر إلى اليسر في الطبقات والشرائح الاجتماعية الوسطى؛ وكانت الأغلبية الساحقة من دولتين: الصين والهند. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، فإن أحوال العالم باتت أفضل عما كانت عليه قبل عقود، وبالتأكيد قبل قرون حيث ارتفعت مستويات المعيشة في دول كثيرة، وتراجعت معدلات حدوث المجاعة، والأوبئة. ولم يكن لذلك أن يحدث لولا الثورة العلمية والتكنولوجية، وتزايد الثروات في الدول، والأهم من هذا وذاك، وربما باستثناء منطقة الشرق الأوسط، تراجع الصراعات الدولية والحروب الأهلية. كل ذلك لم يكن ممكناً حدوثه لولا أن الغالبية من دول العالم أصبحت تسعى إلى التقدم والتنمية، وحدث ذلك من خلال حشد وتعبئة الاستثمارات الداخلية والخارجية وراء تحقيق تراكم رأسمالي يسمح للدولة بتحقيق معدلات عالية للنمو تنقلها من صفوف الدول النامية إلى تلك المتقدمة.

سد هذه الفجوة في العالم العربي لم يأتِ من الموجات الثورية أو الحراك العنيف، وإنما من بزوغ الحركات الإصلاحية التي استلهمت من عمليات التغيير في العالم والدروس المقدمة من المؤسسات الدولية الخاصة والعامة ما يلهم عملية التقدم فيها. ما حدث في إطار «رؤية 2030» في كل من مصر والسعودية شكل سداً لنقص كبير في الحركات الثورية التي استحكمت فيها الشعارات الكبرى حتى صارت بديلاً عن العمل الشاق الذي يجعل التغيير ممكناً في اتجاه التقدم المستدام. هذا الاتجاه الإصلاحي رغم ما يقوم به من تغييرات عميقة في البنية الإنتاجية والفكرية العربية لا يزال في مراحله الأولى من التأثير في الموجات السياسية العارمة التي ألمت بالعالم العربي خلال هذا العقد الصعب في التاريخ العربي، كما أنها لأسباب كثيرة ليس مكانها هنا لم تصل رسالتها إلى بقية العالم العربي. ولعل ما يحدث في المنطقة العربية الآن لا يختلف كثيراً من حيث الجوهر عما جرى في القارة الأوروبية بعد الثورة الفرنسية وموجاتها العاصفة، حينما أصبح الإصلاح العلمي والاقتصادي يمثل قوة الدفع الأساسية للتقدم الأوروبي الذي نراه الآن.

 

arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الموجة الجديدة من الحراك العربي الموجة الجديدة من الحراك العربي



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 21:48 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة
 العرب اليوم - انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة

GMT 09:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
 العرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 17:09 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

مباحثات إماراتية أردنية حول العلاقات والتطورات الإقليمية
 العرب اليوم - مباحثات إماراتية أردنية حول العلاقات والتطورات الإقليمية

GMT 09:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

سوسن بدر تخوض تجربة فنية جديدة
 العرب اليوم - سوسن بدر تخوض تجربة فنية جديدة

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
 العرب اليوم - الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024

GMT 00:18 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

قصة غروب إمبراطوريات كرة القدم

GMT 06:28 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

السجائر الالكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير معروفة

GMT 05:56 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

تدمير التاريخ

GMT 01:25 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

الأوركسترا التنموية و«مترو الرياض»

GMT 17:44 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

الجيش السوري يحاول استعادة بلدات في حماة

GMT 06:19 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

اللا نصر واللا هزيمة فى حرب لبنان!

GMT 02:32 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا تعلن عن طرح عملة جديدة يبدأ التداول بها في 2025

GMT 08:33 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

حذف حساب الفنانة أنغام من منصة أنغامي

GMT 20:57 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

عبدالله بن زايد يؤكد موقف الإمارات الداعم لسوريا

GMT 07:30 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود

GMT 18:25 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

محمد بن زايد ومحمد بن سلمان يبحثان العلاقات الأخوية

GMT 06:25 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

الروس قادمون حقاً
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab