بقلم: عبد المنعم سعيد
واحدة من مزايا مجلس الشيوخ أن العضو لا يكف أبدًا عن التعلم، وبالنسبة لكاتب فإنها تدعو إلى التفكير فى قضايا مصر ومشاكلها؛ والكيفية التى تصل بها الدولة إلى مشارف الدول المتقدمة. وكما كتبت قبل سنوات أن التقدم هو حالة يرتقى فيها الإنسان من وضع متخلف يتميز بالركود والسكون والجهل بعالمه والرضا بما هو عليه وخوفه الدائم من التغيير وتركه ما اعتاد عليه من الآباء والأجداد من أوضاع، ويصل به إلى وضع يتميز بالديناميكية والحركة السريعة والانطلاق إلى قمم عالية من الإبداع والمعرفة والسبق. وكثيرًا ما يُقاس ذلك التقدم بالنسبة للأفراد فى جودة التعليم، والعمر المتوقع عند الميلاد، والاستعداد الدائم للتغيير وقبول الجديد، والاحتفاء بما هو آتٍ. وبالنسبة للدول والأمم لا يختلف الأمر كثيرًا حيث تتغير نوعية الحياة ليس فقط نتيجة التطورات التكنولوجية المختلفة، وإنما فى استخدامها بما يوسع من المدارك، ويبعث على السعادة والرقى. ونحن الآن فى السنة الخامسة من العضوية فإن عشرات القضايا حلت لكى يدلى فيها الأعضاء بدلوهم معبرين فى ذلك عن خبراتهم العميقة، ومعرفتهم بمصر وأحوالها، مضافًا إليها خبراتهم القريبة من الجماهير التى قامت باختيارهم. كل ذلك يخلق درجة من التنوع التى عندما تمتزج مع القيادة الرشيدة لرئاسة المجلس- المستشار الجليل عبدالوهاب عبدالرزاق- فإنها دائمًا لا تكل فى البحث عن حل للقضايا المستعصية التى تتعرض لها مصر، وكثرة منها تبقى ساكنة الاستجابة لتغيير الحال رغم مرور الزمن، وتكرار الحديث عن الزراعة التى هى أصل مصرى أصيل فى أمة تزرع منذ ستة آلاف عام، والصناعة التى هى مفتاح التقدم الجارى فى العالم بخطوات متسارعة، والتجارة التى تأخذ فى الاعتبار سواحل مصر الطويلة وسوقها الواسعة. باختصار لم يكن هناك موضوع من الصادرات وحتى التكنولوجيا لم تكن له معرفة لإمكانيات مصر الكبيرة والواعدة، ولكنه على أرض الواقع فإن ما تحقق كان أقل مما هو مرغوب.
السنوات العشر الماضية أضافت الكثير للإمكانيات المصرية بما أحدثته من نقلات كيفية عندما تغيرت الجغرافيا المصرية من التركيز على محور نهر النيل إلى خلق احتمالات واسعة لمضاعفة العمران والمأهول من السكان على محاور السواحل المصرية شمالًا وشرقًا. التكنولوجيات الرقمية تقدمت كثيرًا نتيجة زيادة عدد الجامعات المصرية التى تركز على الحاسبات والبرامج وأشكال مختلفة من الثروات المعرفية والعلمية. أضاف ذلك كثيرًا للتعامل مع أزمات كبرى مثل الإرهاب والكوفيد وحروب أوكرانيا وغزة؛ والإضافة السكانية التى تجاوزت ٢٠ مليون نسمة. السؤال الذى ظل معلقًا دائمًا هو كيفية «تشغيل التغيير» الكبير الذى حدث بحيث أولًا تزداد معدلات النمو بقدر وسرعة تحقق المشاركة فى المنافسة الدولية التى مرتبة مصر فيها هى ٩٣ دوليًّا من بين ١٤١ دولة. ورغم أن مصر حققت بعض التقدم فى كثير من المؤشرات مثل ممارسة الأعمال أو توزيع واستهلاك الكهرباء، فإن ذلك لم يكن بالقدر الذى ندخل به السباق مع دول قريبة مثل تركيا والمغرب، أو بعيدة عاشت ظروفًا أقسى مما واجهناها مثل فيتنام.
آخر الموضوعات التى جرَت مناقشتها والحوار فيها مع الحكومة يتعلق بالصادرات المصرية، وهى القضية التى لا تكف الحكومة عن إعلان اهتمامها بها، وأكثر من ذلك الإعلان عن الأرقام التى تبغيها مثل ١٠٠ مليار دولار، ومؤخرًا ارتفعت إلى ١٤٠ مليارًا قبل نهاية هذا العقد. وإذا علمنا أن حجم صادراتنا الحالية لا يتجاوز ٤٠ مليارًا فإن الشقة تبدو واسعة وتفرض البحث عن مسارات جديدة للتفكير فى الموضوع. أول سبل التفكير هذه أن ما بدا وكأنه عقيدة مصرية، وهو التركيز على سياسة من «الإبرة إلى الصاروخ» التى كانت شعارًا فى ستينيات القرن الماضى، لم يعد مناسبًا للعصر الذى نعيش فيه؛ وأن ما يناسب هو أن تبحث الدولة عن مزاياها النسبية التى تجعلها تحدد مسار خططها التنموية. وفى أكثر من مقال سابق ركزت على أنه توجد لدى مصر أربع مزايا نسبية «لا نهائية»: أولاها الشمس؛ وثانيتها الرمال التى هى السيليكون؛ وثالثتها المياه، نعم المياه، التى توجد فى بحار وخلجان تتصل بالمحيطات الواسعة؛ ورابعتها التاريخ العميق الذى لا يماثله تاريخ دولة أخرى. التفكير فى مثل هذه اللانهائيات الأربع يجعلنا نتجه بالنسبة للشمس فى اتجاه صناعة الخلايا الضوئية التى بدونها فإن الميزة النسبية لا تحقق الغرض منها. وفيما أنقل عن الدكتور العالِم القدير فاروق الباز أنه يوجد لدى مصر أكبر «صحن شمسى» فى العالم. السيليكون جعلنا فى مراحل سابقة نتحدث كثيرًا عن استغلال الرمال البيضاء والسوداء والصفراء بالطبع فى استخدامات متعددة بعضها حديث يسهم فى التكنولوجيات الحديثة، وبعضها قديم له علاقة بالبناء والعمران. المياه قطعنا فيها شوطًا ليس كبيرًا فى العالم عندما قمنا بإعادة تدوير مياه النيل المستخدمة فى الزراعة عدة مرات، وهو ما يعنى أن تكنولوجيات هذا التدوير تشكل ثروة معرفية ضخمة. تجميع الطاقة الشمسية مع مياه البحار يعطى مياهًا نقية تكفى الزراعة، التى ثبت أن فيها كثيرًا من التطبيقات التصديرية النامية خلال الأعوام الأخيرة، وتزيد قيمتها إذا ما جرى تصنيعها. وتاريخنا فضلًا عما يقدمه للسياحة، التى سوف يعطيها ٣٢ متحفًا جديدًا زخمًا غير قليل، فإن القيمة التسويقية للتاريخ تشمل أنماطًا من الموسيقى والذوق العالمى والألوان التراثية التى تخلق أنماطًا متميزة للاستهلاك فى الأثاث والغزل والنسيج.
الفجوات التى تقف بيننا وبين انطلاقات كبرى تبدأ أولًا من ضعف الاتصال بين ما حدث لدينا من إنجاز، ووصول المعلومات إلى الجمهور العام، والأهم التى تحفز المستثمرين على الاستثمار. وثانيًا أن من بين هذه المعلومات المعرفة الخاصة بالأصول الجديدة المتوفرة للاستغلال الاقتصادى. وجود ١٤ بحيرة مصرية جرى إنفاق مليارات الجنيهات على تنقيتها وتخليصها من العشوائيات وإعادة اتصالها بالبحار، فضلًا عن إنقاذ الثروة السمكية بها، لم يجْرِ طرحها للاستثمار الخاص. ١٥٥ جزيرة فى النيل، و٨١ أخرى من الجزر المتميزة فى البحر الأحمر الموازى للنهضة الحالية من السويس إلى حلايب وشلاتين. كل ذلك تصلح له الطريقة الاستثمارية التى قامت بها الدولة المصرية تجاه «رأس الحكمة» التى شاركت فيها الدولة مع شركة إماراتية، وبعد الانتهاء منها سوف يأتيها خراجها من الضرائب وعائد التعمير عند زيادة الطلب على المنتجات الداخلية المصرية. الأسلوب الأمثل وقد قامت الدولة بدورها فى ذلك عندما قدمت البنية الأساسية بحيث تستمر أولًا فى صيانتها، وثانيًا تطرح كل ما سبق ذكره للاستثمار «العام» أى لشركات مساهمة فى البورصة المصرية، ولكنها لا تنتظر حتى توفر لها الموازنة العامة ما يكفى لتحويلها من خيال إلى واقع. وثالثًا أن المشروع الوطنى حقق الكثير حتى الآن ونجح فى تقديم الكثير من الأصول، ولكن هذه تفقد قيمتها إذا لم تثمر فى النهاية اتصالًا بين أجزاء معمورة ومنتجة تضيف للناتج المحلى الإجمالى مما يرفع مكانتنا بين الأمم.