بقلم: عبد المنعم سعيد
عنوان المقال منقول عن عنوان محاضرة ألقيتها فى الجامعة الأمريكية فى ندوة عن إدارة التنوع فى الشرق الأوسط بتاريخ ٢٣ إبريل ٢٠١٧. وقتها كان «الربيع العربى» قد أسفر عن وجوه قبيحة فى عدد من الدول العربية تحولت إلى مذابح ضحاياها بمئات الألوف، أما النازحون فيها فكانوا بالملايين. سوريا وقتها كانت المثال الذى يتدفق منها اللاجئون عبر البحر المتوسط، وعابرا للحدود إلى تركيا، ومنها إلى القارة الأوروبية، وفى كل الأحوال خالقة كارثة إنسانية، وعاكسة لفشل تاريخى للساسة والجماعات السياسية العربية فى بناء «الدولة الوطنية» التى يمكنها فى وجود التعدديات العرقية والمذهبية والدينية واللغوية أن تسير كما هو الحال فى الهند إلى مقدمة القوى العالمية حتى بعد الخروج الباكستانى من الدولة القارية. لم يكن ما حدث فى سوريا والعراق والسودان وليبيا واليمن نتيجة غياب الفكر الداعى إلى وطنية الدولة وإنما على الرغم منه. فقد شهد العام ١٩٩٤ صدور كتاب «الملل والنحل والأعراق» ومعه حدثت الدعوة إلى عقد مؤتمر «حقوق الأقليات فى الوطن العربى» خلال الفترة من ١٢ إلى ١٤ مايو ١٩٩٤ فى القاهرة. لم يقدر للمؤتمر الانعقاد فى القاهرة وإنما كان على الداعين له الذهاب إلى دولة أخرى لعقد المؤتمر. كانت العاصفة قد قامت، وانقلبت الدنيا رأسا على عقب، واستنكرت طوائف أن توصف بالأقلية، وصدرت بيانات تشكو من مؤامرات أجنبية. الدكتور سعد الدين إبراهيم، رحمه الله، كان من أوائل من تعرضوا لمسألة الأقليات فى الوطن العربى العرقية أو الدينية، مؤكدا أنها سمة أساسية من سمات الوطن العربى. وقدر أن ١٥٪ من سكان المنطقة العربية هم من الأقليات. وأن كل ما شهده العالم العربى من حروب وفتن داخلية ومن إراقة دماء والحروب الأهلية كان سببه تجاهل حقوق الأقليات وقمعهم بما وصل إلى استخدام الأسلحة الكيماوية.
ما ألح بالذكرى والمحاضرة الماضية والكتاب «العمدة» الأحداث التى جرت فى سوريا مؤخرا ودفعت السلطة السورية إلى مواجهة دامية مع الأقلية العلوية على ساحل البحر الأبيض، وجماعات من مؤيديها المعبرين عن السلطة السابقة لبشار الأسد ووالده من قبله عندما امتد عمر هيمنة الأقلية إلى ٥٤ عاما. وفقا لبعض التقديرات فإن عدد الضحايا من المدنيين تجاوز الألف، وما بدا أنه تمرد على السلطة القائمة بعد شهور قليلة من نجاح «هيئة فتح الشام» فى الإطاحة بالسلطة السابقة، ومعاونيها عندما جرى حل الجيش «العربى» السورى، ومساعديها من قوات الحرس الثورى الإيرانى وحزب الله اللبنانى، فإنه فتح الباب على مصراعيه للتعامل مع قضية «التنوع» الأصلية. ولحسن الحظ أن القيادة السورية اختارت طريق التحقيق فى الواقعة من قبل قضاة محايدين سوف يكون عليهم مواجهة السؤال: لماذا لم تنجح القيادة فى تحقيق ما تحدثت عنه منذ دخول دمشق فى ٨ ديسمبر الماضى، وما ذكرته دائما من حديث عن الدولة السورية الوطنية التى تستوعب جميع الأقليات فى الدولة؟! المعضلة هنا أن الدولة الوطنية، وإن كان جوهرها استيعاب الجميع وإدارة التنوع الموجود فى الدولة، فإنها دائما تحتاج إلى سلطة قائمة تستطيع التعامل مع الخروج عليها وتحقيق الاستقرار اللازم للدولة. ولكن ما جرى هو أن أداة الدولة - الجيش السورى الجديد- قام على مجمع من العناصر التى لا تنتمى لسوريا وإنما إلى حركات جهادية أخرى قادمة من الصين وأفغانستان والشيشان من آسيا الوسطى ومثلهم من إفريقيا.
سوف نترك الأمر السورى إلى لجنة التحقيقات، وإلى الرئيس أحمد الشرع الذى لم يقصر فى الإعلان عن رغبته فى استيعاب جميع الطوائف السورية على كثرتها وتنوعها، وفيما يبدو فى وقت مجزرة اللاذقية أنه حقق نجاحا فى الخطوة الأولى لاستيعاب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) فى الجيش السورى. ولكن المهمة لن تنتهى بعد انتهاء التحقيقات، وإنما مواجهة الجذور الحقيقية لما جرى وكيف يمكن منعه من الحدوث مرة أخرى. والحقيقة هى أن هناك عشرات الأسباب التى تقف وراء اختفاء الحرية فى بلد من البلدان، وهذه الأسباب المتعلقة بالحكام والطغاة والمؤسسات والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية يجرى ذكرها على كل لسان. ولكنْ هناك سبب لا يذكر كثيرا، وهو أن من يريدون الحرية يصمتون عندما يتعلق الأمر بحرية الآخرين سواء كانت هذه الحرية متعلقة بالحقوق السياسية أو الاجتماعية، ولكن قبل ذلك وبعده حرية الاعتقاد، وحرية التنوع والاختيار، كما أنهم لا يضعون النظام السياسى والاجتماعى والاقتصادى الذى يكفل هذه الحريات. فالحقيقة الثابتة طوال التاريخ الإنسانى هى أن الاعتقاد فى دين أو مذهب أو طريقة سياسية ـ أى أيديولوجية ـ هو مسألة ذاتية تخص الإنسان وتاريخه وما يحقق له السلام الداخلى. وليس معروفا أبدا لماذا أصبح المسلمون مسلمين، والبوذيون بوذيين، ولماذا انقسم المسلمون إلى شيعة وسنة وانقسم المسيحيون إلى بروتستانت وكاثوليك وفرق ومذاهب تحاربت لمئات الأعوام. وربما كان التفسير الوحيد هو ما جاء فى جميع الأديان والمذاهب أن الله جعل البشر شعوبا وقبائل متنوعة ومتعددة حتى تتعارف وتتبادل الأفكار، وإلا لكانت الإنسانية طبعة واحدة من الملائكة أو الشياطين.
وفى البلاد العربية تكرر السقوط فى الامتحان عندما اقترب الأمر دوما من حرية العقيدة، أو عندما اقترب الأمر من حرية الانتماء إلى جماعة عرقية مختلفة حتى ولو اشتركت مع الغالبية فى نفس الدين وحتى فى نفس المذهب. وعندما كان الرئيس العراقى صدام حسين يذبح الأكراد ويدفنهم فى الصحراء صمتت الأمة العربية صمتا رهيبا أو تمتمت بالتعجب والرجاء، وكان وراء المسألة كلها التضامن مع نظام فاشى فى مواجهة مع الإمبريالية، أو خوفا من الانفصال الكردى، فتتفتت العراق التى يريدها الجميع موحدة. وما انطبق على العراق انطبق على غيرها من الدول العربية، فقد تم اضطهاد جماعات مختلفة من القبائل الإفريقية فى جنوب وغرب السودان، وسواء كانت هذه القبائل مسيحية أو سنية أيضا. وفى دول عربية أخرى كانت الاختلافات بين القبائل هى التى خلقت الصراعات، والأمثلة كثيرة فى الصومال واليمن.
هذا القبح العنصرى لم يعد ممكنا القبول به فى العصر الحديث، وقد مرت شعوب على هذا الطريق. فقد حاول الأمريكيون دمج واستيعاب السكان الأصليين ومن بعدهم السود بشكل قسرى أحيانا، ومن خلال التجاهل أحيانا أخرى. ولايزال الألمان يحاولون مع الطائفة التركية المسلمة فى البلاد، وسبقتها تجارب سابقة للماليزيين تجاه الأقلية الصينية، وادعى الصرب دوما أنهم لا يعرفون وجود مشكلة للأقلية حتى قامت الأقلية المسلمة بالاستعانة بقوات حلف الأطلنطى بتدمير يوغوسلافيا كلها للفوز بدولة يتمتعون فيها بالمساواة. وأصبح نفس الموضوع مطروحا بإلحاح على العالم العربى، فإما المساواة الكاملة بلا تحفظات واستثناءات على أساس العرق أو الدين أو اللون، وتوزيع السلطة والثروة بالطريقة التى تكفل للجميع حقوقا مشروعة، أو حدوث شروخ فى الدولة العربية الحديثة قد تقودها إلى التفتت والتقسيم.