بقلم - عبد المنعم سعيد
قبل ثلاثة أسابيع تقريبًا، نشرت مقالًا فى «المصرى اليوم»، بعنوان: «الإقليمية الجديدة فى الشرق الأوسط»، دعوت فيه إلى استقراء النتائج التى وقعت علينا فى المنطقة بعد نشوب الحرب الأوكرانية الساخنة واحتدام الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. عاد المقال إلى فترة زمنية سابقة جرَت أثناء الحرب العالمية الثانية، التى عُزِل الشرق الأوسط فيها عن الواردات الصناعية القادمة من أوروبا، بعد أن منعت حرب الغواصات فى البحر الأبيض المتوسط مرور السفن المدنية. وكانت النتيجة أن بريطانيا أنشأت ما سُمى «مركز إمداد الشرق الأوسط» أو «ميسك» لكى تعتمد المنطقة على نفسها من خلال التعاون الإقليمى، وكانت البداية بتعميق التعاون بين مصر وفلسطين وسوريا. الآن بدا الأمر مشابهًا لما جرى من قبل، حيث تسببت الحرب الأوكرانية ليس فقط فى ارتفاع أسعار الطاقة، وإنما دخل معها الغذاء والمعادن وغيرهما من المنتجات؛ ومن ثَمَّ كانت الدعوة إلى تعاون إقليمى واسع يتعامل مع نتائج الأزمة الراهنة، وربما يفتح الأبواب لمستقبل أفضل. كانت الدعوة موجهة إلى الدول التى تقوم بالإصلاح الجاد فى الداخل، وترنو فى الخارج إلى أسواق أوسع من سوقها الداخلية، وإلى مصادر أقرب لتغذية صناعاتها، وتقوية خدماتها، وتعويض خسائرها من حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل. لم يكن فى الذهن وقتها الاجتماع الذى جرى مؤخرًا فى النقب بين مصر والإمارات والبحرين والمغرب وإسرائيل والولايات المتحدة، والذى قدم لأمرين: أولهما التعامل مع إيران، التى بدَت من ناحية على وشك توقيع الاتفاق النووى مع الولايات المتحدة وبقية شركائها فى مفاوضات فيينا بما فيهم روسيا والصين؛ ومن ناحية أخرى توسيع إيران لهجماتها على دول عربية شقيقة سواء بشكل مباشر أو من خلال عملائها العِرقيين فى المنطقة. وثانيهما التعاون بين الدول المشاركة فى أمور شتى لها علاقة بالأمن والطاقة واستقرار الشرق الأوسط فى عمومه. اتفق المجتمعون فى النقب على صيغة دورية للاجتماع، وهو ما يشكل رغبة فى دعم التعاون واستمراره، وإرسال رسالة إلى مَن يهمه الأمر بأن الدول المضارة من إيران لن تقف وحدها.
الاجتماع كان لافتًا للانتباه لما صدر عنه وما لم يصدر؛ ولمَن حضره ومَن لم يحضر. لم يصدر عن الاجتماع بيان مشترك يحدد ما جرى تداوله وما تم الاتفاق عليه وما لم يتم؛ وإنما صدرت تصريحات خاصة من جانب مصر تؤكد الاهتمام بالقضية الفلسطينية وضرورة حلها فى إطار حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. كان التأكيد المصرى هنا ضروريًا لوضع القضية على مائدة أعمال التجمع الإقليمى الجديد، وحتى يكون واضحًا للرأى العام الإسرائيلى أن وضع إسرائيل فى المنطقة سوف يتحسن كثيرًا إذا ما جرى حل القضية المستعصية على الحل لأجيال طويلة. المشهد هنا لا يكتمل إلا برصد غياب السودان، التى وقعت فى قائمة الجيل الجديد من معاهدات السلام فى المنطقة، والمعروفة بـ«السلام الإبراهيمى»؛ وغياب الأردن، الواقعة فى قائمة الجيل الأول من معاهدات السلام، والتى تشمل القاهرة وعمان. التبرير جاء أن الأولى كانت معنية بأوضاعها الداخلية، أما الثانية فإنها قامت بمبادرة خاصة قام بمقتضاها عاهل الأردن، الملك عبدالله، بزيارة رام الله للالتقاء بالرئيس محمود عباس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وشق الضفة الغربية من الدولة الفلسطينية المرتقبة بعد اتحادها مع شقها الثانى فى غزة. وحتى يكتمل مشهد الشرق الأوسط بامتياز فقد وقعت حادثتان إرهابيتان داخل إسرائيل من قِبَل تنظيم داعش، لأول مرة فيما نعلم؛ بينما ظهر فجأة أن المفاوضات الإيرانية الأمريكية متعثرة بسبب طلب إيران رفع «الحرس الثورى الإيرانى» من القائمة الأمريكية للإرهاب.
المشهد على هذا النحو لا يتعدى وجود بداية ذات طبيعة استكشافية لمواقف الدول المشاركة، والمعنية بكثير من قضايا الشرق الأوسط، من مصادر تهديد متنوعة بعضها تاريخى مثل القضية الفلسطينية، وبعضها الآخر معاصر تمامًا، وممثل فى الحرب الأهلية السورية، والأخرى اليمنية؛ فضلًا عن مظاهر عدم الاستقرار فى لبنان وليبيا والعراق؛ وبعضها الثالث تقليدى يمثله الإرهاب ومَن يساعدونه مثل إيران؛ وبعضها الرابع ناتج عن الحرب العالمية فى أوكرانيا وتوابعها من توترات عالمية. وليس متصورًا أن الاجتماع المذكور أعلاه يمثل نوعًا من التحالف، خاصة فى هذه المرحلة المبكرة من الاتصالات؛ ولكن الأقرب إلى التصور هو وضعه فى إطار عملية التهدئة الواسعة، التى بدأت بكسر التوتر ما بين «التحالف الرباعى» ودولة قطر، وأعقبه فتح الأبواب للاتصالات الإماراتية الإيرانية، وتلك بين الرياض وطهران، والقاهرة وأنقرة؛ ثم بعد ذلك الاجتماعات العربية التى اشتركت فيها مصر مع السعودية والإمارات والأردن. وسط هذه الموجة من الاتصالات، نجد عددًا من المشاهد المستدعية للتفكير حول مستقبل المنطقة، منها خروج الرئيس السورى بشار الأسد من معقله الدمشقى إلى الساحة العربية بزيارة مفاجئة إلى أبوظبى؛ واستقرار الاتفاق بين مصر والأردن وسوريا وإسرائيل على مد لبنان بالغاز من خلال أنبوب الغاز العربى، والذى قد يسهم فى حل الأزمة اللبنانية؛ ومنها أيضًا أنه رغم وجود حكومتين فى ليبيا فإن ذلك لم يؤدِّ إلى حرب أهلية، وفيما يبدو من تطورات دولية وإقليمية، فإن ليبيا فى طريقها إلى وجود حكومة واحدة، وإذا ما كان التفاؤل كبيرًا فربما تُعقد الانتخابات التى جرى تأجيلها.
منطقة الشرق الأوسط هكذا ينمو بداخلها تيار للتهدئة وتجاوز آثار الفوضى التى نجمت عما سُمى «الربيع العربى» خلال العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين، وما صاحبه فى نصفه الثانى من انخفاض حاد فى أسعار النفط؛ والآن فإنه على العكس ارتفعت أسعار النفط إلى حدود غير مسبوقة. الأكثر أهمية من ذلك أن موجة من الإصلاح العميق فى الدول العربية قائمة على تعزيز الدولة الوطنية، بما فيها من نمو اقتصادى وتجديد دينى وتغيير فى واقع الجغرافيا والتاريخ للدول الإصلاحية. هذه الموجة صاحبها اتجاه نحو السلام العربى الإسرائيلى يعرف الجميع أنه لن يستقر ما لم يكن هناك حل للقضية الفلسطينية، ورغبة قوية فى السلام واستقرار العلاقات مع دول الجوار غير العربية. وهنا تحديدًا ربما تقف العقبات التى تواجه مُضى مناخ التهدئة قدمًا لكى يحل محله مناخ التعاون، حيث إن الحكومة الإسرائيلية القائمة حاليًا لا تتحمل اتخاذ خطوات جريئة فى اتجاه السلام، وكذلك فإن تنظيم حماس بتوجهاته الأيديولوجية والتاريخية يسير فى اتجاه المواجهة والعنف لحد ذاته وليس فى اتجاه تحقيق تسوية معقولة للصراع لا تعكس توازن القوى بين الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى، وإنما تعكس نتائج مستقبل السلام بينهما. الاتجاه الوسط المحتمل ما بين الاجتماعات الاستكشافية والواقع هو وجود مشروعات إقليمية مفيدة للأطراف المعنية وحاجتهم إلى التهدئة بعد «الجائحة» وحرب أوكرانيا تقوم على التعاون المشترك فى مشروعات مماثلة لمشروع منتدى شرق البحر المتوسط. وعلى أى الأحوال، فإن حديث الإقليمية الجديدة سوف يطول.