بقلم: عبد المنعم سعيد
قصتى مع التكنولوجيا لا تزال مستمرة، وأظنها سوف تظل كذلك مادام فى العمر بقية، وقد مر عقد الثمانينيات دون لحاق بأى من الثورات الصناعية، ولكن مع عام ١٩٩٠ كان مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بـ«الأهرام» قد حصل على أول كمبيوتر شخصى كان الدكتور حسن أبوطالب هو أول مَن يعرف كيفية استخدامه. وعندما يكتب التاريخ فإنه على هذا الجهاز جرى أول «تقدير موقف» حول «أزمة العراق والكويت»، بعد ساعات قليلة من غزو صدام حسين للكويت. ولا أدرى شخصيًّا حتى الآن ما الذى جعل «الأهرام» تتأخر حتى ذلك الوقت فى تحقيق قفزة تكنولوجية ضخمة منذ عصر اختراع القلم، وهى التى عرفت «الكمبيوتر» الرئيسى Main Frame منذ عام ١٩٦٨؛ ولا عرفت بالطبع سببًا لغياب التراكم التكنولوجى، ربما لأننا استوردنا الكمبيوتر الأول، ومر عقدان بعدها حتى استوردنا الثانى، وبين هذا وذاك لم يكن هناك نصيب وحظ فى المعرفة المنتجة لأيهما.
ولكن المعجزة حدثت، وجرى الجرى بين الثورات الصناعية ساعة شراء أول جهاز أبل ماكنتوش ٢، الذى قيل إنه أحدث ما عرفه العالم من تكنولوجيا. وكان ذلك فى يوم من أيام إبريل عام ١٩٩٣ عندما أقنعنى زميل بالشراء والتعلم، وساعتها كنت أعمل مستشارًا سياسيًّا فى الديوان الأميرى لدولة قطر، ولما كان أمير البلاد قد تعرض لانقلاب فعلى عليه، فلم يعد يحتاج هو ولا وزير الديوان مستشارًا سياسيًّا، وهكذا بات ثلاثتنا نجد وقتًا للفراغ كان كافيًا بالنسبة لى لدخول الثورة الصناعية الثالثة، حيث كتبت أول مقالاتى، وكان لصحيفة الحياة اللندنية بعنوان «اليتامى»، ومن ساعتها لم أكتب شيئًا بالقلم مرة أخرى.
عدت إلى «الأهرام» من «التغريبة» الخليجية لكى أطالب بإدخال مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية إلى عصر الكمبيوتر، مبتدئًا بالحصول على أحدث الطرازات، أى يكون مماثلًا لما كان لدىَّ وأستخدمه بالفعل بالمنزل. وكان الأستاذ إبراهيم نافع- رئيس مجلس الإدارة، رئيس تحرير الأهرام- كريمًا عندما جعلنى أحصل عليه حتى التقيت بالمهندس تيمور عبدالحسيب- رحمه الله- الذى كان مشرفًا على هذا النوع من العمل، وأخبرنى بدهشته الشديدة أننى اخترت جهازًا متخلفًا بهذه الطريقة، حيث تعمر الأسواق بما هو أفضل وأكثر تقدمًا. كان عالم الكمبيوتر قد تغير، فبعد الثورة التى ولّدها «ستيفن جوبز»، واكتساحه الأسواق بآلته العجيبة، حتى أفاقت شركة IBM، ومن بعدها شركات أخرى، وظهرت شركة «مايكروسوفت» والعبقرى الخاص بها، بيل جيتس، بمحركها «ويندوز Windows»، وجرى السباق رهيبًا، حتى إن ستيفن جوبز نفسه جرى طرده من شركته «أبل» نظرًا لأنه بات يُكبد الشركة خسائر فادحة!، وعندما أصبحت مديرًا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أدركت التكلفة الباهظة للتغيرات التكنولوجية المتتالية، وخلال خمسة عشر عامًا كان علينا تغيير الأجهزة والبرامج كل ثلاثة أعوام تقريبًا. ومع ذلك وبشكل شخصى فقد سابقت الزمن لكى أظل فى قلب الثورة وليس لاحقًا لها، ولم يكن السبب ولعًا تكنولوجيًّا بقدر ما كان ولعًا بالتغيير الذى يجرى فى الزمان والمكان.
المسألة ببساطة هى أن السيارة فعلت ذلك من قبل، وتعالوا نتخيل الوقت والجهد الذى يستغرقه الذهاب من القاهرة إلى أسوان مشيًا على الأقدام أو على ظهر جمل أو حتى على صهوة حصان عربى أصيل. وبعد ذلك تعالوا نتخيله جريًا بالسيارة أو سفرًا بالطائرة، هنا فإن قيمة الزمن تغيرت، والمسافة أصبحت أقصر، وساعتها فإن وطنًا مثل مصر لا يعود صحراء مترامية الأطراف، وإنما يمكن لَمّ أطرافه كلها بشبكة من وسائل الاتصال والمواصلات، وفى ذلك يصغر البلد من حيث المساحة، لكنه يعلو كثيرًا من حيث القيمة المادية والمعنوية بسبب المعرفة الأكثر قربًا؛ أما بالنسبة للفرد فإن اليوم لا يعود يومًا، وإنما هو حاصل الفرق الزمنى بين مسيرة الجمل والطائرة. وفى عصر الكمبيوتر، ومن بعده الإنترنت، بات العمر «لحظة» يتم فيها الإرسال والاستقبال، ومنذ عام ٢٠٠٣ كان علىَّ فى كل صيف إلقاء محاضرات والبحث فى معاهد أمريكية مختلفة، ولم يحدث مرة أن تأخرت مقالاتى التى أرسلها إلى القاهرة ولندن، وكان لدىَّ من الوقت دائمًا ما يكفى لقراءة كل صحف القاهرة. وكان آخر عهودى مع التخلف، أو هكذا ظننت، عندما ذهبت إلى «مركز كراون» لدراسات الشرق الأوسط جامعة برانديز عام ٢٠٠٥، وكان معى بحوثى التى سوف ألقى منها محاضراتى موضوعة على«ديسكيت»، وهو أشبه بأسطوانة صغيرة يتم ولوجها إلى داخل الكمبيوتر، فإذا الأبحاث كلها متاحة للبحث والتنقيب. ولكن سكرتيرة المعهد نظرت إلىَّ بدهشة شديدة لأنها لا تعرف ما أمسك به، وأظنه آخر مكتشفات العلوم والتكنولوجيا، وبعد سؤال آخرين من القدامى عُثر لى على جهاز يتقبل ذلك «الديسكيت»، فقد كان عصر «الفلاش» قد وُلد منذ وقت طويل!. الطريف فى الأمر أنى ذهبت فورًا لشراء أول فلاش لى ودفعت ٧٠ دولارًا كاملة فى حجم ذاكرة قدرها ٢٥٠ ميجا بايت. وبعد شهور قليلة وصلت إلى اليابان، فكان لدىَّ أول فلاش له ذاكرة قدرها «جيجا» كاملة، وعندما ذهبت إلى معهد كراون فى عام ٢٠٠٨، لاحظت أنه على الرف الذى توجد عليه أدوات الكتابة للباحثين توجد سلة ممتلئة على آخرها بالفلاشات كلها بحجم جيجا أو عدة جيجاوات، أما ما لدىَّ الآن فإن حجم الذاكرة صار ٢٥٠ جيجا، وهى تكفى لكى يكون فيها كل ما كتبته خلال الخمسين عامًا الأخيرة، ومعها مصادر ما كتبت، وفوقهما بضعة أفلام وموسيقى من كل نوع.
التكنولوجيا تغيرت كثيرًا، وما حدث هو أن ستيفن جوبز بزغ على الساحة من جديد مظفرًا بمخترعات جديدة، وبعد أن أسس شركة «NEXT»، ومن بعدها شركة «Pixar» كان قد خلق ثورة فى بضعة عوالم: عالم الكمبيوتر عندما اخترع سلسلة جديدة أخف وزنًا وأسرع اتصالًا، ولا يقربها «فيروس» ولا يصل إليها ميكروب؛ وعالم الموسيقى عندما اخترع شيئًا صغيرًا يحتوى على آلاف الأغانى واسمه «iPod» ؛ وعالم السينما حينما خلط ذلك كله ووضع فوقه أشياء أخرى حتى جعل عالم «الجرافيك» كما لم تعرفه الدنيا، وحدث ذلك بينما الرجل مصاب بسرطان البنكرياس ومن بعده الكبد. وفى وقت الفراغ، وجد الرجل أنه لا بد من آلة بسيطة رقيقة رائعة اللون خفيفة الوزن تجمع ذلك كله فكانت «الآيباد iPad». ولعل هناك مَن يتساءل الآن عن الدرس الذى نتعلمه من ذلك كله، والإجابة هى أن العالم يتغير، ومع التغير لا يصير الزمان والمكان كما كانا، وهناك دائمًا صعوبات فى تقبل التغيير، وربما كان علينا دومًا قياس ما نحن فيه، وآن الأوان أن نطّلع على ما يجرى فى الدنيا، أما ما يجرى فى مصر فهو باقٍ فى انتظار عودتنا إليه، ولكن الأمر هو أنه ساعة العودة سوف يكون الحال مختلفًا تمامًا!!.