بقلم: عبد المنعم سعيد
لم يختلف أحد خلال الأيام السابقة على أهمية مشروع «رأس الحكمة» واعتباره نقطة متميزة خلال مسار السنوات العشر الماضية في التنمية والبناء. ولم يختلف أيضًا أحد على أن المشروع هو في النهاية مثال أو نموذج يمكن تطبيقه على عدد كبير من المشروعات الأخرى، التي توجد لدى الجميع أمثلة كثيرة منها. هؤلاء جميعًا ممن يعتقدون أن مصر زاخرة بثروات كثيرة تنتظر مَن يتقدم لاستغلالها بالطرق التي يعرفها العالم من الاستثمار، الذي يُحول الثروات إلى عملية منتجة قادرة على الاستمرار في توليد الثروة؛ وفى نفس الوقت إغناء خزينة الدولة بضرائب الدخل والمبيعات والعملة الصعبة مع التصدير للخارج أو استقبال السائحين من المستهلكين في الداخل. ما كان يشغل البال هو ما إذا كانت الصفقة وحيدة من نوعها أو أن الحكومة سوف تستمر في مسار ممتلئ بالإنتاج والعائد أو أن البيروقراطية سوف يكون لها طريقها الخاص في منع ما حدث تحت ادعاءات شتى. أدوات التواصل الاجتماعى زاخرة بما يكفى من أسباب الإعاقة، ابتداء بـ«بيع مصر» وانتهاءً بأن يسرى على المكان ما سرى على فلسطين من استيطان. الادعاءات كلها منظمة من جماعات لا تريد بمصر خيرًا، وهى توفر ذخيرة لمَن يريد بها شرًّا، وهى متاحة للجميع ممن يبقون كل الأمور عما هي عليه. بالنسبة لى فقد كان المشروع متوافقًا مع ما ظللت أصر عليه طوال السنين الماضية حول المدى الذي نصل إليه في الخروج من النهر إلى البحر سواء كان في «رأس الحكمة» أو ما ذاع عن «رأس الجميلة» على خليج العقبة. ولما كان لدينا ما يزيد على ٣٠٠٠ كم من سواحل الماء بحار وخلجان وبحيرات جرى إصلاحها وتجهيزها، فإن الفرص هائلة؛ والمسار ممكن، ومع كل نجاح، فإن كل النجاحات الأخرى متاحة.
مما يمكن إضافته من ذات النوعية ما سبقت الإشارة إليه فيما يخص الجزر المصرية مشروع قومى عملاق يقوم كله على قدرات القطاع الخاص المصرى والاستثمارات الأجنبية سواء بالملكية الكاملة، أو بحق الانتفاع طويل المدى، يقوم على الاستغلال الأمثل للجزر المصرية، فتوجد في نيل القاهرة وحدها ١٥ جزيرة، في النيل المصرى كله توجد ١٤٤ جزيرة منتشرة أمام ٨١٨ قرية ونجعًا ومركزًا في ١٦ محافظة (أسوان- قنا- سوهاج- أسيوط- المنيا- بنى سويف- الجيزة- القاهرة- القليوبية- المنوفية- الغربية- كفر الشيخ- البحيرة- الدقهلية- دمياط- الأقصر). وهذه الجزر موزعة من أسوان حتى قناطر الدلتا (٥٥ جزيرة)، وفرع رشيد (٣٠ جزيرة)، وفرع دمياط (١٩ جزيرة)، وتبلغ مساحة الجزر ١٥٥٠ كم مربع، أي مثلين ونصف المثل لدولة سنغافورة، وأكثر من ثلاثة أمثال دولة البحرين، وأكثر من مثل ونصف المثل لمساحة مدينة هونج كونج الشهيرة، وأكثر من ٢٥ مثلًا لجزيرة مانهاتن الشهيرة أيضًا في نيويورك..
ومن المؤكد أن كلًّا منها يصلح لأن يكون مكانًا للسكن والحضارة لا يختلف كثيرًا عن حى جزيرة الزمالك أو حى جزيرة المنيل. وكل ذلك بخلاف ٨١ جزيرة في البحر الأحمر، كلها لا تقل روعة عن جزر بحر الكاريبى.
ولكن القضية المصرية في التنمية ليست فقط الخروج من النهر إلى البحر؛ وإنما ما لا يقل أهمية هو إدارة الثروات المصرية ليس إدارة الفقر في مصر؛ ولعل أهم الثروات هي تلك التي جرى التغيير بشأنها بالتعمير وإقامة البنية الأساسية، خاصة ما يتعلق بالمدن الجديدة والمناطق الصناعية. «الحماية الاجتماعية» دائمًا مطلوبة في المراحل الانتقالية من التخلف إلى التقدم، ولكن إدمانها سوف يُضيع على مصر فرصة تاريخية كبرى يمكن انتهازها الآن بما سميته «تشغيل التغيير» لكل ما لدينا من مدن جديدة ومطارات منظورة، ومناطق صناعية ليست مأهولة حتى الآن، وشقق غير مسكونة، وتراكم مخيف لما يسميه الاقتصاديون رأس المال الميت، الذي لا يُنتج عائدًا، ولكنه لا يستنكف الإنفاق عليه في سكونه. وربما في هذا الشأن يمكننا القيام بنوع من «الهندسة العكسية» لمشروع «رأس الحكمة» يسير على الوجه التالى: أولًا أن المشروع كان معلومًا وواقعًا في خطة قومية لا جدال في أصالتها المصرية. وثانيًا أن فوائد المشروع معلومة من حيث الإنتاجية وتوابعها من عوائد مادية ومعنوية؛ وبالصورة التي خرج عليها، فإنه يوفر موارد فورية تُغنى الموازنة العامة وتجعلها أكثر مرونة في التعامل مع العجز المالى. وثالثًا فإنه رغم أولًا وثانيًا، فإن المشروع لم يخرج إلى النور سوى الآن، وبعد المرور بفترة من العسر المبين الذي بات علينا التعرف عليه وإدراكه. وهنا ورابعًا ما العقبات التي وقفت من قبل أمام المشروع ومنعته من الظهور؛ وهل كان ممكنًا أن نُقيم مدينة العلمين بنفس الطريق الذي نسير فيه بالنسبة لرأس الحكمة؛ أم أنه، وعلى الأرجح، أن إقامة المدينة على المستوى الرائع الذي أُقيمت به هي التي جعلت الساحل الشمالى المصرى مغريًا للاستثمار الكثيف؟.
ببساطة، ونحن الآن في مرحلة فارقة من المشروع الوطنى المصرى؛ وعلى أبواب فترة رئاسية جديدة، وعلى مرمى النظر بالمستحقات المطلوبة في رؤية مصر ٢٠٣٠؛ فإن التاريخ سوف يحاسب الجيل الحالى على المدى الذي يستطيع به أن يحقق نقلة كيفية ونوعية في المستقبل المصرى. هو انتقال لا يتم دون إزالة عوائق البيروقراطية وتخلف النظام الإدارى للدولة الذي لا يوجد مثيل له في الدول البازغة، وبالتأكيد المتقدمة؛ وربما آن الأوان لتطبيق ما لدينا من مشروعات الإصلاح في هذا الشأن، والتى طال التأخير تطبيقها أكثر من اللازم. لقد أثبتت الأحوال كثيرًا أن الواقع «الجيو سياسى» المصرى في إمكانه توفير حوافز مشجعة للمؤسسات الدولية على مراجعة أمورها فيما يخص الشأن الاقتصادى المصرى كما وضح مؤخرًا من سلوكيات صندوق النقد الدولى الأكثر رحابة، في وقت تقوم فيه مصر بدور إقليمى بارز في أزمات تهدد بالتحول إلى حرب إقليمية صعبة. وكذلك حث هذا الواقع الأصدقاء والأشقاء على استكشاف القدرات التنموية المصرية في إطارات من التكامل الإقليمى في فترة باتت فيها تحالفات «الميليشيات الإقليمية» مقلقة ومفزعة، وتستدعى تقاربًا وتكاملًا بين دول راسخة.
ولكن على الجانب الآخر، فإن الواقع «الجيو اقتصادى» المصرى يظل هو دائمًا الذي يكفل التنمية المستدامة وتحقيق القفزات الكبرى في معدلات النمو التي تراجعت كثيرًا خلال السنوات الماضية، فكما جرى ذكره أعلاه في هذا المقام وغيره، فإن الحقيقة الراسخة هي أن مصر ليست فقط «جيوسياسية» تعبر، كما ذكر د. جمال حمدان عن عبقرية المكان؛ وإنما هي أيضًا حقيقة جيو اقتصادية معبرة عن وفرة في الموارد كما ظهر جلِيًّا من مشروع «رأس الحكمة»، فموارد الدول ليست دائمًا نفطًا وغازًا وذهبًا. الاندفاع في اتجاه «الذهب أو GOLD RUSH» ليس فقط عندما اندفع المهاجرون الأمريكيون من الشاطئ الشرقى الأطلنطى إلى الشاطئ الغربى الباسيفيكى، فهناك وجدوا الذهب ومعه ما هو أكثر وأعلى قيمة