بقلم - عبد المنعم سعيد
عالم العلاقات الدولية «كينيث والتز» أوصى تلاميذه فى أحد كتبه أن يكون تناول الحروب من ثلاثة مستويات للتحليل: النظام الدولى الذى جرت فى ظله، وحالة الدولة المتحاربة، والقائد الذى يقود ساعة الحرب. هذا المستوى الأخير المتجسد فى شخصية إنسانية لها خواصها وأفكارها وسبل إلهامها للآخرين كثيرا ما يضيف لفهم ما يجرى فى وقائع الحرب المروعة. ولا يمكن فهم الحرب العالمية الثانية وفصولها المتعددة دون النظر إلى هتلر وستالين وتشرشل وروزفلت وبعدهم بمسافة ديجول. الحرب الأوكرانية الجارية لها ثلاثة وجوه تفصح عن الكثير فى مسار الطريق إلى الحرب وما جرى أثناءها: الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين»، والرئيس الأمريكى «جوزيف بايدن»، ورئيس أوكرانيا «فولدماير زيلينسكى»، ثلاثتهم انتموا إلى عصرنا هذا، وحاول كل منهم أن يدفع مصالح دولته العليا إلى الأمام فيما يعتقدون أنه بقاء وحقوق لا يمكن التخلى عنها.
أول الزعماء الثلاثة هو الأكثر ظهورا إلى الرأى العام فى روسيا والعالم، وهو فى العادة يعبر عن نفسه مباشرة بالجلوس أمام الكاميرا ثم الحديث. الملاحظة الأولى على الرجل قبل الأزمة أنه فى حالة من الشباب الدائم وهو حريص على إظهارها بتعرية صدره وإظهار عضلاته والإبلاغ عن ممارساته الرياضية فى ساحات مصارعات الجودو، وفى كل الأحوال فإن صورته عند توليه الحكم لا تختلف كثيرا عنها بعد أكثر من عشرين عاما. هذه الحالة كثيرا ما تختلط مع صورته كرجل قادم من عالم المخابرات والتى دخل منها إلى السياسة فى لحظة انهيار الاتحاد السوفيتى التى أخذته إلى قرب من أول الرؤساء الروسيين «يلتسين» الذى دفع به إلى مقعد السلطة. وخلال ما يزيد على عقدين من السنوات لم يخرج الرجل فى أى وقت من السلطة حتى عندما أجاز الدستور الروسى أن يتولى الأمر الرئيس «ميدفيديف» لدورة واحدة كان فيها «بوتين» رئيسا للوزراء وفى يده كل السلطات. الملاحظة الثانية أنه خلال أكثر من عقدين من وجوده فى السلطة لم يعد أنه سوف يكون بصدد خوض أزمة وحرب لا يوجد لها مثيل منذ انتهاء الحرب الباردة. ورغم أنه كانت لديه انتقادات مستمرة للسلوكيات الأمريكية فى العالم، بل إنه كان أحيانا سندا لها خاصة فى أفغانستان، ومتوافقا فيما يتعلق بالمعاهدات الخاصة بالسلاح النووى بما فيها تسهيل عقد ثم إعادة عقد الاتفاق النووى الإيرانى، والتفاهم حول العمل داخل ساحة الحرب الأهلية السورية بما فيها نزع الأسلحة الكيماوية والتنسيق مع إسرائيل. كل ذلك ربما كان دافعا للاعتقاد بأن الرجل لن يعارض كثيرا نوايا حلف الأطلنطى بالتوسع الذى يحتوى أوكرانيا بين صفوفه، أو أنه بعد سنوات من التعاون الذى ينطوى على مد الولايات المتحدة بالطاقة، ربما لن يلحظ حالة التراجع الأمريكى فى الساحة العالمية. لكن يبدو أن ذلك كان من الفجاجة بحيث لا يمكن تجاهلها وانتهاز الفرص منها لمراجعة النظام الدولى الذى جاء مهينا لروسيا فى أعقاب انتهاء الحرب الباردة. لم يعد بوتين مهتما بالترويج لروسيا المتقدمة والتى ظهرت للعالم فى وقت مباريات كأس العالم ٢٠١٨، وإنما بحماية أمنها من اقتراب حلف الأطلنطى فى لحظة وهن غربية.
جوزيف بايدن الزعيم الثانى فى المواجهة الأوكرانية كان الرجل الذى عرف كل شىء عن الغزو الروسى لأوكرانيا بل إنه أذاعه على العالم كله، لكنه فشل فى منعه وحماية «العولمة» الأمريكية فى العالم، و«الديمقراطية» فى أوكرانيا. والملاحظة الأولى على الرجل تحمل وجهين أولهما أن الرجل كبير السن يقترب من الثمانين عاما، وثانيهما أن الرجل صاحب تجربة عريضة فى السياسة الأمريكية والعالمية. ولمن كان لديه هاتان الصفتان فإنه يعرف جيدا الكثير من التجارب، بل إنه يعرف الأزمات والحروب التى خاضتها أمريكا عن ظهر قلب، والمرجح أن الرجل بات يعرف تماما الحالة الأمريكية وما وصلت إليه وهو يواجه أقرانه فى الحزب الديمقراطى أثناء فترة الانتخابات التمهيدية، ثم بعد ذلك فى المواجهة الكبرى التى جرت مع سابقه «دونالد ترامب» والتى شاهد مجراها يوم السادس من يناير ٢٠٢٠ والكونجرس الأمريكى يتعرض للهجوم لتغيير نتيجة الانتخابات. شاهد الرجل من الشروخ الأمريكية ما لم يشاهده أحد من قبل فى التاريخ الأمريكى، وكان لديه من الوعى ما يجعله مستعدا للتعامل مع أكبر أزمة يواجهها رئيس بعد توليه الرئاسة. بايدن هكذا حصيف، والمرجح أنه رجع إلى كتب إدارة الأزمات لكى يستدل منها على الخطوات الواجب اتباعها حيث توجد خلية ممثلة لأجهزة الأمن القومى المختلفة، وهذه تضع الخيارات وأثمانها وخطوات تطبيقها، وهو بعد ذلك يقارن ويوازن ما بين نشوب الحرب بين روسيا وحلف الأطلنطى التى لا يريدها، ووقف بوتين عن تكرار أزماته، وإذا كان هناك من ثمن مدفوع يمكن القبول به فسوف يكون من الحسابات الأوكرانية.
«فولدماير زيلينسكى» الزعيم الثالث فى القائمة والذى قال عنه «دافيد ريمنيك» فى صحيفة «النيويوركر» إنه «الكوميدى الذى لبس لباس ونستون تشرشل» والذى وصل إلى السلطة بعد سلسلة من الثورات البرتقالية والثورات المضادة لها. والحقيقة أن نجاح الرجل فى الانتخابات الرئاسية على العديد من القيادات المتمرسة فى السياسة الأوكرانية كان مفاجأة، والمرجح أن الأوكرانيين بعد تعب وإرهاق سياسى ممتد منذ انتهاء الحرب الباردة وجدوا فيه الحل الوسط الذى ربما يخرج أوكرانيا من مأزقها «الجيوسياس» الذى يضعها فى أحضان روسيا الوريث للاتحاد السوفيتى، والديمغرافى القائم على وجود مناطق تعيش فيها أغلبية تتحدث الروسية ولها هوية تدعوها لكى تكون جزءا من روسيا الاتحادية. جاء الرجل إلى الحكم، بينما قامت روسيا بضم منطقة القرم، وبعد عقوبات اقتصادية أصبحت روسيا هى المصدر الرئيسى للطاقة فى القارة الأوروبية، ولم يعد أمامه إلا استدعاء القرب من حلف الأطلنطى والانضمام إلى الاتحاد الأوروبى. لم يكن ذلك أفضل الحلول لأوكرانيا حتى ولو كان يؤكد على سيادتها لأن النجوم فى السماء كانت تتقابل على وعود جديدة لا تطيق فيها روسيا هذا المقترب، ولا يوجد لدى أمريكا وأوروبا ما يدفعها إلى هذا الاتجاه. لكن مثل هذه الحسابات السياسية تتطلب فترات من التجربة والعلم ومعرفة الحدود، ولا يبقى بعدها إلا الوقوف فى مواجهة العاصفة ربما بحسابات تاريخية تتغلب فيها الرموز على الموضوع. تلبس زيلينسكى لباس تشرشل، لكن دون الجزيرة البريطانية المحاطة بالماء من كل جانب، ودون التاريخ الإمبريالى البريطانى واسع النطاق الذى يجلب جنودا من الهند والبنغال، وأكثر من ذلك كان منكشفا من الشرق فى الحدود مع روسيا المحتشدة للهجوم، أما فى الغرب فقد كانت الحدود مفتوحة لكى يرحل الأوكرانيون عن أراضيهم.
الزعماء الثلاثة سوف يكتب عنهم كثيرا فى كتب التاريخ من أجل أجيال جديدة من القادة لم تشهد ما نشاهده الآن، ولم تعلم ما نعلمه الآن، سوف تكون الأزمة والحرب الأوكرانية مدرسة فى قادم الأيام.