بقلم: عبد المنعم سعيد
يوم الأحد الماضى كان عمودى «كل أحد» عنوانه «الدخول إلى الهاوية»، وصفت فيه تداعيات الاقتراح الأمريكى بتهجير الفلسطينيين من غزة إلى كل من مصر والأردن بأنه يشكل زلزالا قاسيا على المنطقة بما يترتب من تبعات فشل الاقتراح، وما سوف تقوم به إسرائيل من إجراءات لإحباط وقف إطلاق النار الحالى، وما يترتب عليه من نتائج فى داخل غزة بعد عودة الحرب، وخارجها على ما كان من سلام وما كان متوقعا منه. ببساطة فإن بناء «عملية السلام» فى المنطقة منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣ سواء كانت عربية إسرائيلية أو فلسطينية إسرائيلية قد وصلت مع مقترحات الرئيس ترامب إلى هاوية سحيقة يحتاج الخروج منها إلى كثير من الجهد والفكر والشخصيات العظيمة التى تستطيع تحمل مسؤولية اتخاذ قرارات عظمى. بداية فإن الشرق الأوسط يُشكل وحدة استراتيجية متكاملة، إذا ما اشتكى فيه عضو تداعى له كل الأعضاء بالسهر والحمى. مثل ذلك كان يُقال عن العالم العربى، والأمة الإسلامية، ولدى علماء الاستراتيجية فإنهم يطلقون ذلك على القارة الأوروبية، أو منطقة «الإندوباسيفيك» أو جنوب شرقى آسيا. كل التغيرات التى تحدث يكون لها نتائجها الشاملة على القضايا الكبرى للحرب والسلام، والبناء والتعمير، وتفعيل الحضارة أو إشعال البربرية.
المشهد الحالى بدأ فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، مدعيًا ترجمة آلام بعيدة إلى واقع جديد؛ ولكنه بعد عام وخمسة شهور، تحوَّل إلى حرب إقليمية امتدت من الخليج العربى إلى البحر الأحمر، ومن هذا الأخير إلى الأبيض المتوسط، وتناوبتها الصواريخ والطائرات المسيّرة. أصبحت مسارح الحرب شاملة غزة والجنوب اللبنانى والشمال الإسرائيلى، وفيها جميعًا جرى التدمير والنزوح ووعود النصر ومشاهد الهزيمة. الحرب دخلت فيها أصابع دول، وأظافر أقاليم، ولكن الولايات المتحدة كانت حاضرة فى كل الأوقات واقفة إلى جانب إسرائيل بصلابة حاملات الطائرات؛ وحتى اللحظة الأخيرة من ولاية «بايدن» كانت تسعى إلى وقف إطلاق النار الذى جاء بعد دفعة من الرئيس ترامب. وما إن دخل الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض حتى توالت قراراته فى سرعة غير مسبوقة، وفى لهب غير معتاد فى أيام أولى لرئيس جديد. وخارجيا لم يكن نصيب اللهب ذاهبا إلى أوكرانيا وحربها مع روسيا أو إلى حماية تايوان فى أزمتها أمام الصين، وإنما كان موجها إلى منطقة الشرق الأوسط وقطاع غزة فى قلبه.
جاء الأمريكى بعاصفة كبيرة عنوانها «التهجير» لأهل القطاع المكلومين، جارحا كل أصحاب القلب والعقل، ويهين فيها الجميع بادعاء تحقيق مصالح الفلسطينيين فى مناطق جميلة، وتحويل قطاعهم الفارغ إلى شاطئ متوسطى تحسده «الريفيرا» الفرنسية. لجيلنا الذى عاش يستدعى ذاكرة الموجات الاستعمارية، وكان عليه فى واقعه أن يحارب الاستقلال والغزو، فإن ما يسمعه من الإدارة الأمريكية يشكل إهانة بالغة للكرامة الإنسانية.
لحسن حظى خلال السنوات السابقة وقبل غارة ترامب على غزة، أننى رفعت شعار «ليس لنا إلا أنفسنا»، فى جميع الندوات التى شاركت فيها سواء كانت فى مصر أو فى غيرها. معنى الشعار فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وغيرها من قضايا المنطقة، وجميعها تتعلق بفشل القوى السياسية المحلية فى التوصل إلى كلمة سواء تحمى الدولة من الانقسام والحرب الأهلية. فى مثل هذه الأحوال فإن التدخل الخارجى فى العادة يزيد الأمور سوءًا، ويبلغ بها مراحل من القسوة التى تقض المضاجع، وتجعل من الأحوال كوابيس من الصعب الاستيقاظ منها. أولى المعضلات التى نواجهها المفاجأة التى شكلها خروج ترامب بحديثه عن تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن. كانت هذه هى الضربة الأولى التى جاءت من قلب جهود مضنية لوقف إطلاق النار الذى عندما تجسد فتح الباب لموجة من التفاؤل تجذب إمكانيات استمرار وقف إطلاق النار مرة أخرى أو عند النجاح التالى يكون دائما يشجع على مباحثات سلام مثمرة. كان مبعث التفاؤل انقشاع موجة التشاؤم التى ولدتها الحرب وما نجم عنها من مآس إنسانية؛ ولكن ذلك كان مبكرا أكثر مما يجب للواقفين فى انتظار نسائم السلام؛ ولكنه كان فرصة للحالمين بشرارة النصر من «حماس» أن يقفوا مسلحين فى أزياء عسكرية كما لو كانت نهاية الحرب حلت وأن وجودهم فى القطاع قد بات مضمونا. هذا النوع من الإشارات المبكرة بالنصر شائع فى التاريخ العربى المعاصر، وعندما يحدث فإنه يعكس ضمانة إلهية بأن الأقدار تقف فى جانب الواقفين فى الصف المقدر، ولكن عندما تأخذ الطبيعة مسارها فإن النتائج تكون وخيمة تماما.
تبعثر النصر «الحمساوى» المبكر بسرعة وأصبح الموقف الآن ليس إنهاء حرب غزة الخامسة وإنما التعامل مع عملية تهجير قاسية تبعثر الشعب الفلسطينى بعيدا عن دياره. ترامب يبدو واثقا من مشروعه، وهو يحضر له بالاستفزاز والابتزاز لدول عربية، واستحضار مناطق منسية فى القرن الإفريقى لكى تشكل بدائل إذا ما استمر الرفض العربى. تثبيت الشعب الفلسطينى على أرضه هو البداية التى توحى للعالم أن العرب جادون فى إنقاذ فلسطين، أو ما تبقى منها. التمعن فى أسباب الموقف الحرج الراهن نجدها ديموغرافية فى الأساس، شواهدها واقعة فى كل وثائق وتصريحات معسكر اليمين الإسرائيلى المتشدد والمتعصب، وما السعى نحو تهجير الفلسطينيين إلا لتحقيق تفوق ديمغرافى للجمع اليهودى. وللأسف فإن معرفة ذلك المبكرة كانت تقتضى تطبيعا سكانيا كبيرا بعودة فلسطينيى المهجر إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، أو السياحة أو الاستثمارات العربية أو جميعها معا، ومثل ذلك إن لم يحقق التوازن السكانى فإنه كان يمنع الخلل فيه. المعضلة أن التطبيع ظل دائما نوعا من النجاسة الوطنية التى لا تجوز لأمم طاهرة حتى ولو بطلت الصلاة فى فلسطين نتيجة الهجرة القسرية.
على أى الأحوال ضاعت الفرصة فى أوقات كانت فيها إسرائيل تحصد التغيير السكانى باستيراد المهاجرين الروس ساعة خروجهم من المحنة السوفيتية. وزاد عليه أن الانقسام الفلسطينى زاد بعد اتفاق أوسلو، وظل على حاله مع إضافات جديدة عند الانتفاضة الثانية، ورغم محاولات كثيرة للصلح بلغت ١١ محاولة فى القاهرة، وأخريات فى السعودية والجزائر وروسيا ومؤخرا فى الصين؛ لأن القيادات والنخب الفلسطينية تحاول إدارة مشروعها التحررى لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة من خلال قيادة سياسية رمزية، بينما يوجد ١٤ تنظيما مسلحا يتخذ قرارات الحرب والسلام. إسرائيل على الجانب الآخر كانت على كثرة أحزابها وشيعها، موحدة فى مشروعها للدولة اليهودية تأتيها الهجرات من جميع أركان الكوكب والتى لا تعنى فقط انتقالا سكانيا، وإنما كانت نوعا من الحج الذى لا يقوم على زيارة واحدة وإنما مدى الحياة. نقطة البداية فى الخروج من الهاوية الفلسطينية التى زادت عمقا بالموقف الأمريكى لتهجير الفلسطينيين فى غزة، وعلى الأغلب حتى يأتى وقت الضفة الغربية؛ هو خروج حماس من الصورة، وتكوين قيادة فلسطينية يمكنها فى لحظة حرجة أن تخرج الشعب الفلسطينى من الهاوية التى وقع فيها.