بقلم: عبد المنعم سعيد
قبل أسابيع، فاجأنى الأستاذ نشأت الديهى مقدم برنامج «المشهد» الذى أشارك فيه على قناة «تن» أسبوعيًّا بأن موضوع الحلقة سوف يكون عن «الذكاء الاصطناعى» وما يلحقه من تكنولوجيا تقدم المجتمعات. لم يكن سهلا على الكاتب السياسى ورفاقه من المشاركين ترك الموضوعات المطروحة داخليًا وخارجيًا؛ وكلها تتأرجح ما بين القلق والفزع فى أوقات ساخنة يحكمها الذكاء الطبيعى للإنسان إلى حديث عن ذلك الصناعى الذى يقول عنه السكرتير العام للأمم المتحدة إنه بالغ الخطورة على البشرية. ولكن ما جرى فى الحلقة كان كافيا لكى يجعل حكايات أخرى قابلة للانتظار، فالقصة ليست عن علاقة فرد مع التكنولوجيا الجديدة، ولكن ربما كانت قصة مجتمع بأسره، وما عليك إلا أن تتصفح أيا من مذكرات القرن التاسع عشر لكى ترى ماذا فعلت السكك الحديدية بمصر، أو تتابع ما حدث فى القرن العشرين حتى تجد نفسك فى مواجهة الكهرباء فورًا. دفعنى ذلك للتفكير الشخصى عن علاقتى بالتكنولوجيا، وقد وجدت بالمصادفة بين أوراقى ما يحكى قصة فردية؛ ولكنها فيما بعد سوف تلقى بظلالها على مجتمعنا والعالم.
ولعل أول الفصول بدأ فى واحد من أيام خريف عام ١٩٧٩ عندما كان على الدارس للدكتوراه فى جامعة شمال الينوى أن يختار مادتين لا بد منهما باعتبارهما «أدوات للبحث»، كان من بينها «الإحصاء» و«الرياضيات» و«المنطق العلمى»، ولما كنت قد درست بعضا من الإحصاء فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فقد اخترتها، كانت الرياضيات من الثقل على ذكائى بحيث لم يبق إلا الدرس الأخير. ولكن الرحلة مع أدوات البحث لم تكن سهلة أبدا، وكان من بين الصعوبات أنه ظهر لأول مرة ما عرف بجهاز «الكومبيوتر» سمعنا عنه من قبل باعتباره يحل مشكلات الكون، ولكن ما اكتشفته أنه لا يستطيع حل أى من مشاكلى. فقد كان يشبه نوعا من الآلة الكاتبة الكبيرة، ولكنها لا تكتب وإنما تقوم بتثقيب «كروت» من نوعية خاصة، وهذه يجرى وضعها فى جانب يشبه آلة عد النقود، وبعد أن تجرى تكون طابعة قد استوعبت المادة المثقوبة لكى تطبع النتائج على ورق عريض. المهم أنه لكى يتم تفعيل هذه الآلة الجهنمية كان لا بد أن تعرف فنون استخدام الآلة الكاتبة، وعندما عرف أستاذى فى ذلك الوقت أننى لا أعرف، قال لى: ربما تكون ماهرا فى التحليل السياسى، ولكنك لم تصل إلى الثورة الصناعية الأولى بعد!. وساعتها تذكرت نقاشات وحوارات كثيرة كانت تجرى بالقاهرة فى عنفوان هائل من قبل قبيلة من المفكرين لم يلمس أىٌّ من أصابعهم تلك الثورة أيضا رغم أنهم جميعا كانوا يتحدثون عن «حركة التاريخ»!.
وبالطبع قمت بحل المشكلة من خلال الإصرار والعمل والتقليد للآخرين، وكانت معضلة المعضلات أن خطأ واحدا، فى ثقب واحد، كان كافيا لفساد المسألة كلها، ولا بد فى كل مرة أن تبدأ المسألة من أولها. وكان ذلك ما فعلته، ومع الدعوات القادمة من المحروسة فإنها باتت كافية ساعة الامتحان. ورغم النجاح فقد صار فى الأمر عقدة أظنها تأتى للمجتمعات أيضا ساعة اتصالها بتكنولوجيا معقدة، مع ذلك لم أكن جاهزا ساعة أن جاءت التكنولوجيا السهلة فى الاستخدام. وباختصار كان ستيف جوبز قد اخترع جهاز الكمبيوتر الشخصى عام ١٩٧٩ ومع أول الثمانينيات ظهرت أول أجيال إنتاجه وقررت أن تكون رسالتى للدكتوراه- إدارة الولايات المتحدة لأزمة أكتوبر ١٩٧٣ فى الشرق الأوسط- مكتوبة- أو مطبوعة إذا شئت- على هذا الجهاز الذى كان أولى علامات ميلاد «الثورة الصناعية الثالثة» حتى ولو لم أكن قد عبرت الثورة الأولى بعد.
وهكذا انتهيت من مناقشة رسالة الدكتوراه يوم ٢٧ أغسطس ١٩٨٢، وكنت فى طريقى إلى القاهرة يوم الثامن من سبتمبر وعشت فى انتظار وصول رسالة الدكتوراه بعد أن تكون السيدة التى تولت كتابتها على الكمبيوتر قد أرسلتها عن طريق البريد السريع. وبالفعل وصلتنى الرسالة من قرية البضائع بمطار القاهرة الدولى لكى تخبرنى عن وصول صندوق يخصنى، ولكن الحصول على الصندوق لم يكن سهلا حيث كنت أتحدث عن رسالتى للدكتوراه- وهى مادة علمية لا تفرض عليها جمارك- والموظفون لا يجدونها فى المكان المخصص للمادة العلمية. وبعد مشقة وعدة زيارات ظهرت المسألة جلية ساطعة، فما كان مادة عملية لم يكن حزمة من الورق، وإنما كان مجموعة من الأسطوانات المرنة التى رأى جماعتنا فى المطار أن مكانها هو هيئة الرقابة على المصنفات الفنية التى عليها حماية الوطن من الأغنيات الخليعة التى تفسد الأخلاقيات القومية. وهكذا أصبحت أمام مشكلات كان أقلها أن الرسالة لم تعد مصنفة كمادة علمية وإنما كمادة فنية- أى من الفن- وجب دفع الضرائب عليها؛ ولكن المشكلة الأعظم كانت أنه لا بد من اختبار هذه المادة بالاستماع إليها واكتشاف ما هو داعر فيها وهو ما يعنى تدمير رسالتى الجامعية التى لم تكن أسطواناتها تتحمل تلك النوعية من الجرامافونات التى تقوم إبرة حساسة فيها بترجمة خطوط أسطوانات الغناء إلى ألحان شجية مسموعة.
البشرى كانت إنقاذ الرسالة، والأسطوانات التى كتبت عليها، أما العزاء فهو أن ذلك لم يعد للأسف ينفع كثيرا لأن الجهاز الذى كتبت أو طبعت عليه لم يعد له وجود فى الكون كله. وربما كان ذلك هو لعنة الثورة الصناعية الثالثة حيث لا تنتهى من اختراع حتى تجد آخر قد ألغاه فورا، وفى المجتمعات التى لا تتغير كثيرا مثل مجتمعاتنا فإن كل شىء يبدو غريبا ومدهشا تماما فى كل مرة يجرى فيها مثل هذا التطور. وكان ذلك هو ما حدث عندما أصبحت زميلا فى مؤسسة بروكينجز فى واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية على مدى عام ما بين ١٩٨٧ و١٩٨٨. وهناك كان لى مكتب معدا بجهاز جديد للكومبيوتر يختلف تماما عن الجهاز الذى شاهدته قبل أعوام، ولما كنت لم أعبر بعد بالثورة الصناعية الأولى فقد اعترتنى الصدمة بالتطورات الجارية فى الثورة الجديدة حتى ولو كنت قد انتهيت توا من نشر كتابى عن «العرب ومستقبل النظام العالمى» الذى تحدثت فيه كثيرا عن كيف أن هذه الثورة سوف تقلب النظام العالمى كله وهو ما حدث فعلا بعد سنوات قليلة.
ولأول مرة بدا لى واضحًا تمامًا أن هناك فجوة سيكولوجية مع قضية التقدم بصفة عامة والتكنولوجى بصفة خاصة، وعندما اعتبر بعض من أجدادنا أن السكك الحديدية كانت نوعا من العفاريت المصنوعة من الصلب فقد كانوا يعيشون فى هذه الفجوة التى لا تفسر فقط الماضى بل تفسر الحاضر أيضا. فالتقدم لدى النخبة يبدو نوعا من الفانتازيا، أما بالنسبة للعامة فهو نوع من العفاريت غير المأمونة، وكان الحل جاهزًا دائمًا أن هناك نوعا من الخصوصية التى تحمى الكرامة وتجعل الحديث عن الريادة حقيقة ممكنة. يتبع.