بقلم: عبد المنعم سعيد
فى مصر نحتاج كثيرا لتجديد الفكر، وكانت الفاتحة هى محاولات تجديد الفكر الدينى، وصار الموضوع واردا فى الجامعات والمؤسسات والخطب والأحاديث السياسية، وأصبح فى النهاية من القضايا القومية. على نفس المنوال فإننا فى حاجة ماسة لتجديد الفكر الاقتصادى الذى لايزال مستعمرا بأفكار الخمسينيات والستينيات والسبعينيات حول علاقة المواطن والمجتمع والدولة، وبينه وبين العالم الخارجى. هناك حديث كثير عن تغير العالم والإقليم، لكن هناك صعوبات كثيرة فى الإمساك بلحظة التغيير، ومحتواها، وهل هى مرفوضة أم يمكن القبول بها، أم الأفضل أن تبقى الأمور على حالها. ولو أن هناك رصدا للتصريحات الرسمية، فإن أكثر كلماتها دارت حول ضرورة وجود القطاع الخاص، لكنك لا تشعر أبدا، بعد زمن عام أو عامين أو عقد كامل، أن الأمور تغيرت. صحيح أن مصر كلها تغيرت، وباتت جغرافيتها ليس التى كانت، لكن التساؤل بعد ذلك ما الذى فعلناه بهذا التغيير الجوهرى والرئيسى، الذى لا يبقى كذلك إلا إذا شارك فيه الناس بالتواجد والعمل والاستثمار، وباختصار أسواق يمشى فيها الناس يشترون ويبيعون. بشكل ما فإن العملية الاقتصادية ليست متكاملة، فرغم الدهشة الكبيرة مما يجرى فى العالم من تقدم نرصده، ونرصد مخاوفه أيضا، ولا تعدم المخاوف من تصدير أنه إذا كان الذكاء الاصطناعى سوف يكون كما يقولون، فربما يكون الأمر مؤامرة أو اختراعا لتدمير الآخرين الضعفاء فى مثل حالتنا الضعيفة. خلال السنوات العشر السابقة حققنا الكثير مما فعلته الدول التى سبقتنا من بنية أساسية، واختراق كامل إقليم الدولة من العوينات إلى سيناء، ومازال هناك خطط للمزيد، لكن الحلقة لا تكتمل أبدا إلا باكتمال السوق وما فيه من عرض وطلب، وإنتاجية واستهلاك. السؤال الطبيعى: لماذا لم يحدث ما كان مطلوبا حدوثه؟، الأزمة الاقتصادية طرحت الكثير من الأسئلة، خاصة أنها فى ظاهرها مست الأسعار بارتفاعها، ليست فقط سلامة النظام الاقتصادى فى عالم مضطرب بأزماته، وإنما أكثر من ذلك أن هناك فجوة فكرية بين الواقع المعقد، وقدراتنا على إدراك التفكيك الضرورى للعقد، وإعادة تركيبها بحيث تكون فى النهاية مساهمة فى انطلاقات اقتصادية.
من المعلوم أننى لا أقع بين الاقتصاديين، ولا بين الواقعيين فى مجالات التمويل والبنوك، لكن المسألة عندما تتعلق بالاستراتيجيات وتحقيق الأهداف القومية فإن السياسة تصبح فاعلا فى توقيع الموارد وتعظيم عوائدها. النظرة إلى دول العالم، والدول حولنا، تدفع للتساؤل حول: لماذا نجحت الدول الآسيوية هذا النجاح بينما لاتزال معدلات نمونا ما بين الكسيحة والمتواضعة؟، المسألة لها وجه آخر، وهو أننى ممن يعتقدون، مثل المهندس نجيب ساويرس، أن مصر دولة غنية ولديها ما يكفى ويزيد لكى تكون «صين الشرق الأوسط». المثال الصينى يقوم على المزاوجة ما بين عدد السكان الضخم (مليار و٤٠٠ مليون نسمة) ومساحة الصين الهائلة (٩.٦ مليون كيلو متر مربع)، وقدر هائل من العمل على مدى ثلاثة أرباع قرن الذى يدار بحزم فى مناخ من الأمن والأمان الذى يكره الفوضى والانفلات. فى عصر «ماوتسى تونج» لم يكن ذلك كافيا لأن الدولة والحزب الشيوعى الصينى كان يحتكر كل شىء. لكن بعد الانفتاح الذى جرى مع مؤتمر الحزب الشيوعى الصينى عام ١٩٧٨ أضيفت الفردية بمعنى أن الأصل فى الحياة أن يعتمد الإنسان على نفسه، والتكنولوجيا التى قدمت تاريخيا معامل مضاعفة إنتاجية الإنسان، والنظر فى الأسواق العالمية. السلع والبضائع والخدمات التى تنتج عن الاقتصاد لا يمكنها الاحتباس داخل الدولة، وإنما دورتها لا تكتمل دون الولوج إلى أسواق خارجية.
كانت التجربة اليابانية مثيرة فى هذا الشأن منذ بدايتها بعد الحرب العالمية الثانية. قبل الحرب كانت اليابان مجتمعا عسكريا، يعيش وفق تقاليد صارمة فى الانضباط والاستعداد للتضحية من أجل الإمبراطور واليابان، وبعدها فإن كل طاقاته ذهبت من أجل التخلص من عار الهزيمة والإبادة النووية وفى التفوق على العالم الغربى. بدأت العجلة اليابانية فى الدوران خلال العقدين التاليين، ولحسن حظ الدولة فإنها شهدت قرب حدودها حربين: كوريا، وفيتنام، وفيهما كانت الجيوش الأمريكية تطلب الكثير من غذاء وملبس وسيارات وعربات متعددة الأحجام وقطع غيار السلاح. كانت اليابان جاهزة لكى تقدم كل ذلك، وما هو أكثر، وكانت جاهزة لكى تشد كل الأحزمة على البطون من أجل التصدير إلى الخارج، وأصبحت أمريكا مدينة لليابان. وهكذا باتت اليابان نبراسا لكل الدول الآسيوية من نمور وفهود لكى تعيد بناء اقتصادها فى ذات الاتجاه اليابانى، ولم تكن الصين استثناء من ذلك. أصبحت الصين الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة فى الاقتصاد العالمى فى عام ٢٠١٠. وعندما نشر هذا الخبر كنت بالمصادفة فى اليابان، وقتها سألت رئيس الوزراء «هوماتويا» فى لقاء صحفى التعليق على هذا الخبر فكانت إجابته الهادئة هى أن ذلك أمر طبيعى، فسكان اليابان أقل من ١٠٪ من سكان الصين، أما مساحتها فهى أقل من ذلك.
هل يمكن التفكير فى مصر بحثا عن إجابة السؤال: لماذا تختل معادلتها سكانا ومساحة مع دول مثل تركيا والمغرب، بحيث تتفوق الصادرات الخارجة عن كل منهما على الصادرات المصرية؟. سوف نستبعد، ولو مؤقتا، الدول النفطية ولو أنها هى الأخرى فى طريقها إلى إنشاء اقتصادات متنوعة تتعدى النفط وتتخطاه. ولا يوجد على ذلك إجابة بسيطة مثل أن مصر ليست معدة للعمل بالقدر الذى تتطلبه المرحلة وعمالها وموظفوها يعيشون كل هذا القدر من الإجازات السنوية. المعادلة فى الشرق الأوسط مثلها مثل تلك التى فى جنوب شرق، وشرق آسيا، كم هائل من العمل مضافا إلى استغلال كامل المساحات والموارد، مع استخدام أهم التكنولوجيات المتاحة عالميا، مع قدرة كبيرة على التسويق وقدرة على المنافسة. مصر يمكنها تسيير مثل هذه المعادلة، ولديها، وفق كل التقديرات الدولية، أكثر مواقع العالم تنافسية، لكننا بالرغم من معرفتنا بهذه الحقيقة، ونستعيد بدرجة غير قليلة من اللذة أقوال د. جمال حمدان عن «عبقرية المكان»، لكن قدر استغلال هذه العبقرية محدود ومتواضع. السعودية الآن من نفس المنطلقات الآسيوية تتحدث عن الدولة الواقعة بين ثلاث قارات، ويمكنها أن تجنى من اللوجستيات وسلاسل التوريد ما يجعلها تتخلص من إدمان النفط وتتجاوز معه إلى مكانة دولية مرموقة.
المعضلة المصرية الكبرى هى الفكر الذى يجعل المواطن المصرى معتمدا اعتمادا ثقيلا على الدولة، وهو إذا ما زاد استهلاكه الكهرباء لأنه يستخدم آليات التكييف بدلا من المراوح، أو أن أطفاله لديهم طموح الأسرة للحصول على مكان فى المدارس الأعلى كفاءة، أو بات استخدام «الفويل» من العادات القومية نظرا لدوره فى الحفاظ على الطعام، فإنه يريد ذلك دون تكاليف إضافية تقض مضجعه وتبعد النوم عن جفونه. الأمر بات يحتاج الحوار الوطنى، ومداولات مجلسى الشيوخ والنواب، والصحافة والإعلام المصرى، ويكون عنوانها هو لماذا يسبقنا الآخرون؟.