بقلم -عبد المنعم سعيد
اللحظة التاريخية هي زمن فارق بين عهدين اختلفت فيهما التوجهات والحركة، ويصبح العالم واقفاً بين ما ذهب وما هو آت؛ هي زمن تتفاعل فيه متغيرات كثيرة لكي تصنع «العاصفة المحكمة» والتغيير الكامل، أو وفق ما جاء في فكر الجدليين أنها الواقعة التي عندها تتحول كل التغيرات الكمية إلى لحظة كيفية تغادر زمنها إلى زمن آخر. هناك ثلاث لحظات من هذه النوعية تجري في العالم، وفي الشرق الأوسط، وفي كل دولة عربية علي حدة؛ والمحاولة هنا لشرحها ليست تفصيلية، وهي تلغرافية لأسباب المساحة والثقة بثقافة القارئ الكريم الذي هو لبيب بالإشارة يفهمُ.
اللحظة المحورية في العالم هي الانتخابات الأميركية التي سوف تجري في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني)، يومها سوف يذهب الأميركيون إلى صناديق الاقتراع لكي يقرروا مصير العالم أجمع. لسوء الحظ، أو لأنها حالة الدنيا، فإن تصويت سكان الكوكب في الانتخابات ليس وارداً، ولكنهم سوف يتابعون ويقررون ما يناسبهم. ولكن أياً كان مسار العملية الانتخابية، ومن فاز ومن خسر، فإن تقرير المصير سوف يكون هو اختبار أهم عملية مراجعة للتاريخ الأميركي المعاصر في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية. هو الإجابة عن الأسئلة الخاصة بقيادة أميركا أو عزوفها عن القيادة، ومعها سوف يكون السؤال حول أشكال التغيرات الجيو - سياسية فيمن سوف يلحق ومن سوف يسبق. ازدواج يوم الانتخابات مع أزمة «كورونا» وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية سوف يضع على المحك أمراً عما إذا كنا إزاء عالم واحد أو عوالم متفرقة بعدد قوميات الدنيا وشيعها وأحزابها وأديانها أيضاً. لو كنا عالماً واحداً فسوف يكون ما جرى خلال السنوات الأربع الماضية محض جملة اعتراضية يُستأنف بعدها مواجهة الاحتباس الحراري، وحماس المنظمات الدولية متعددة الأطراف، والبحث فيما عما إذا كان ممكناً وقف الأمراض المعدية، أو كيف سيكون التعامل معها بحجم الكرة الأرضية. إذا كان الأمر عكس ذلك، فإن همّ الحياة سوف يكون رهناً بكل جماعة على حدة، وسوف يكون العالم صغيراً للغاية.
الشرق الأوسط، وعالمنا العربي في قلبه، إزاء لحظة تاريخية هو الآخر منبعها جرى في مطلع عقد مضى عندما نشب ما سمي «الربيع العربي»، ولكن السنوات العشر شهدت نتائج اللحظات التي سميت «ثورية»، وأهم ملامحها كان أشكالاً مختلفة من الأصولية الدينية قاعدتها كانت الإخوان المسلمين كحاضنة وقائدة للتعبئة والتمويل والتنظيم الدولي. ما جاء بعدها كان تنظيمات شتى، واحد منها – «داعش» - أقام دولة للخلافة لثلاث سنوات، والبقية قامت بما قامت به جميع الحركات الأصولية: الإرهاب. الخلل الاستراتيجي الذي سببته هذه التطورات أعطت ثلاثة ردود فعل عربية: الاستسلام لما جرى وانهيار الدولة أو ضعفها الشديد، سوريا واليمن وليبيا والعراق؛ والخيانة كما فعلت قطر؛ والإصلاح العميق والتغيير الداخلي الشامل في بقية الدول. رد الفعل الإقليمي كان اغتنام الفرصة من قبل الدول الإقليمية غير العربية – إيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا – لكي تأخذ أرضاً أو توسع نفوذاً أو تحصل على موارد طبيعية ليس لها حق فيها. اللحظة التاريخية هنا هي كيف سيكون التوازن ما بين ردود الفعل هذه وما خلفته من آثار موجعة، ولكنه أيضاً دفع في اتجاهات جديدة لمواكبة العصر، وانتهاز فرصه التكنولوجية، والمضي قدماً في إصلاح الدول، وأيضاً إصلاح الإقليم. لم تكن هناك صدفة أنه بينما لا تزال حروب التدخل، والحروب الأهلية جارية، أن توجهات التعاون والسلام ظهرت على السطح من أول منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط، إلى المبادرتين الإماراتية والبحرينية للسلام مع إسرائيل، وفيها أيضاً غاز ونفط وتكنولوجيا، والمفاوضات اللبنانية والإسرائيلية لترسيم الحدود البحرية بين الدولتين. هي لحظة اختبار بين موجتين، واحدة تتطلع إلى يقظة إمبراطوريات ذهبت وضاعت أفضالها، والأخرى تريد أن تكون جزءاً من عصرها كدول وإقليم يكون فيها التعاون والسلام والتنمية هو عنوان المرحلة.
اللحظة التاريخية الثالثة تجري في داخل كل دولة عربية التي عاشت تجربة العقد الماضي بكل ما كان فيها من مرارة وعلقم؛ والتي لسبب أو آخر شاهدت العالم يجري بقفزات واسعة نحو دنيا جديدة بينما ظلت هي حبيسة تقاليد غابرة جرت تحت رايات ثورية تارة أو بيارق الخصوصية تارة أخرى. ما جرى في الكثير من الدول العربية كان اتباع طريق الإصلاح العميق الذي قام على حزمة من الإصلاحات: أولها المراجعة الكاملة والتجديد للبنية الأساسية للدولة؛ وثانيها مشروعات عملاقة هدفها استيعاب الطاقة الجغرافية للدولة بكاملها؛ وثالثها إصلاح الجمع الديموغرافي إنتاجياً وتعليمياً؛ ورابعها تجديد الفكر الديني لكي يصل إلى أعماق التسامح مع الآخر والسماحة مع العصر؛ وخامسها تجديد الفكر المدني لكي يكون مواكباً للعقل والعلم والتقدم التكنولوجي؛ وسادسها مد اليد للتعاون الإقليمي على أساس من المصالح المتبادلة الذي يعني زوال الحرب وإقامة السلام والعدالة. هذا المشروع الإصلاحي تواجهه تحديات كبيرة - بعضها يأتي من الخارج في القوى الإقليمية المشار إليها، ومن سرعة التقدم الجاري في العالم علمياً وتكنولوجياً وتنافسياً؛ ومن الداخل حيث لا تزال القوى الداخلية الرجعية والسلفية والأصولية تحاول بكل الطرق من الإرهاب إلى الخيانة أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. اللحظة التاريخية الراهنة داخل الدول العربية هي لحظة للتدافع والتناقض والصدام، وحسمها سوف يكون موضوع الآن في اللحظة والساعة لمن يحافظ على الحكمة في التدبير والنفاذ في البصيرة.
تزامن اللحظات الثلاث ليس من الأمور العادية في التاريخ، وفيما سبق من لحظات مماثلة، فإن التلازم جرى حتى قاد إلى حروب عالمية، وثورات إنسانية كبرى، وظهور أديان، وصعود وسقوط إمبراطوريات، وبعدها استقرت موجة جرت العادة في الماضي أنها تستقر لقرون، ثم صارت القرون عقوداً، والآن فإنها تتشكل في سنوات. مفتاح الانغلاق والانفراج في هذه اللحظات المستعصية كان دائماً في يد النخب السياسية التي كان لديها في الماضي أوقات ممتدة قد تصل أحياناً إلى ألف عام؛ ولكنها في اللحظات الراهنة لا يوجد لديها هذه الرفاهية. الثورة الزراعية قطعت على البشرية آلاف الأعوام من الرعي والتقاط الثمار، واستمرت أكثر من ألف عام، ولكن عندما بدأت الثورات الصناعية فإنها مع تعدد أنواعها الأولى والثانية والثالثة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن الرابعة والخامسة تزاحمت فيما بينها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. النخب السياسية الحالية تقع عليها أعباء ثقيلة، ليس فقط لأن الزمن بات لحظة يمكن فيها الانفلات والانطلاق معاً، وإنما لأن المتغيرات تبعثرت وكثرت، والتحديات زادت بمعدلات لم تحدث في مرحلة تاريخية سابقة. النخب السياسية العربية لم يحدث أن وقع على عاتقها أعباء 350 مليون نسمة، ولا أثقال المنافسة مع عالم يجري ويتغير بسرعة الصوت والضوء معاً. ولكن اللحظة قائمة، والاختيارات داخلها صعبة، ولكنها أيضاً ليست مستحيلة ولا محبوسة في قمم تقوم على أبوابه عفاريت وجان. فكروا تصحوا، فالضوء لامع في نهاية النفق.