كان يوم الخميس ١٧ نوفمبر الماضى هو آخر الأيام التى كتب فيها محمد أبوالغيط يومياته مع المرض الخبيث قبل أن يتوفاه الله يوم الإثنين الخامس من ديسمبر. فاتِحَتُه فى ذلك اليوم الأخير من الكتابة «هواء! أبحث عن ذرة هواء واحدة لا أجد! أشعر بضيق تنفس، فأرسل رسالة لأمى أطلب منها أن تدعو لى أن يفرج عنى».
القصة جاءت فى كتابه أو روايته «أنا قادم أيها الضوء» (دار الشروق)، التى تضمنت يومياته التى بدأ فى تفصيلها اعتبارا من ٢٨ يوليو ٢٠٢١، ومن وقتها بدأ عملية منتظمة مسجلا فيها آلامه الرهيبة، وأدويته المُرة، وعلاجه المؤلم.
ووسط كل ذلك كان يقلب العالم وكأنه يرى من زجاج شفاف.. هى نوعية ليست جديدة من الكتابة الأدبية، ولا حتى عندما تعلقت بمرض السرطان، ولكنها ليست معلومة باللغة العربية فى حدود علمى الذى ليس غزيرًا فى هذه الناحية، ولكن ما كان جديدًا هو تلك الحالة من الشجاعة المبهرة التى يقدر فيها الراوى على الغوص فى جوهر الحياة والممات، بينما يزور محطات كثيرة من الأدب والفلسفة والتجربة التاريخية فى لغة راقية وصافية ونقية لا تعرف حقدًا ولا كراهية ولا غضبًا.
وفى عام ١٩٦٩، أصدرت عالمة النفس السويسرية إليزابيث كوبلر روس كتابها «عن الموت»، الذى كان خلاصة أبحاثها من معايشة الذين يخوضون تجربة الوفاة المؤكد.. فى هذا الكتاب رأت أن من يمرون بالتجربة يعيشون خمس مراحل: أولاها الإنكار، وثانيتها الغضب، وثالثتها المساومة، ورابعتها الاكتئاب، وخامستها القبول والتسليم بالقدر المحتوم والقضاء النافذ.
بالنسبة لمحمد أبوالغيط، نجده مرَّ فقط بمرحلة الإنكار، وهى أكثر المراحل طبيعية عندما تأتى الصدمة الكبرى، ولكنه ما لبث أن دخل ما يمكن تسميته مرحلة المعركة والتحدى والاحتمال لآلام مروعة يصير معها، وربما على الرغم منها أكثر شفافية وقدرة على استدعاء إنسانية فياضة وموهبة غزيرة فى الحكى والقص.
لا أدعى أننى عرفت محمد أبوالغيط أكثر من تجربة قوامها أقل من عام، حينما شرفت بالقراءة فى «المصرى اليوم» لكاتبين من «شباب اليوم» وجدت فيهما نتاج جيل جديد خَبِرَ تجربة ثورة أخرى غير تلك التى عرفناها أو خُضناها فى أيامنا الشابة. بشكلٍ ما لمست المعرفة وترًا عن الاستمرارية المصرية والقدرة على إنجاب أجيال جديدة، دومًا غنية وحساسة لما عاشوا فيه من زمن.
لم أفعل أكثر من الكتابة لهما تعليقًا على ما كتبا، ومشيدًا بما جاء فيه من بداية عهد جديد من فنون الكتابة. لم يكن قد مضى وقت طويل، وفى الحقيقة أقل من عام، لكى أغادر البلاد لمعالجة مرضى الخاص.
وحينما عُدت بعد عامين تقريبًا كان الشابان قد اختفيا من كتابات الصحيفة، ومعهما آخرون كُثر ذهبوا إلى بلاد أخرى. وفى الذاكرة، جاء لقاء شخصى للمرة الأولى والأخيرة فى دبى، كان فيها متذكرا ورقيقا، حتى جاءتنى قصته كلها فى كتابه الرائع الذى بلغ فيها الشجاعة فى العنوان حيث الضوء الذى كان مقبلا عليه هو الموت وليس غيره.
كان قد توصل إلى أنه فى كثير من الحضارات فإن الذهاب إلى العالم الآخر يعنى الانتقال إلى مراحل أو مرحلة من النور والضياء، حيث لا يوجد عذاب قبر ولا حالات جديدة من توحش الألم.. هى لحظة من الشفافية والامتلاء من حياة جرى فيها الحصول على قدرٍ غير قليل من السعادة.
هو يقتطف قبل يومياته الأخيرة من كتاب «باولا» لإيزابيل الليندى «أنكون أنا وباولا قد أحببنا كثيرا، واستنفذنا بشراهة السعادة المخصصة لنا؟ أنكون قد التهمنا الحياة؟».
«باولا» فى الكتاب هى فى الحقيقة «إسراء» زوجته التى هى فى حد ذاتها قصة أسطورية للوفاء والحب، وهى التى يهديها الكتاب كله، ومنها ربما استلهم نظرية الضوء.
ولكن الرواية ربما تقص علينا أن النور أتى من داخله، وإذا أتى لآخرين فإنه يأتى من داخلهم، لأنه فى مواقع أخرى كلما اقترب الأمر من الصحاب وذكريات الحياة والعمل وتقلباتها، تنبع السعادة حتى يصبح كتابا عن الانتقال بين عالم وآخر، هو فى حقيقته احتفال بتلك المرحلة التى نسميها الحياة.
لدى محمد أبوالغيط الحياة هى حالة، ربما تستحق احتفالا دائما، هو منذ ميلاده ورابطته مع والده ووالدته يوجد فيها تدفق من الاحترام والحب والاعتقاد فى بركة ما يقدمانه من مساعدة ودعاء، إذا ما مس القلب يرفع الألم ويأتى الرجاء. لكل الأحياء ربما لن تشعروا بغنى اللحظة التى تعيشونها وروعتها إلا بعد قراءة هذا الكتاب. رحمه الله.