كانت المصادفة وحدها هى التى وضعت فى طريقى، قبل أيام، واحدًا من تلك الكتب عن الثورة، ولم يكن عن ثورة واحدة، وإنما فى كتاب تتجاوز صفحاته الألف، كانت هناك قائمة طويلة من الثورات التى جرت فى القرن الواحد والعشرين.
الكتاب حرره ثلاثة من المحررين- أندرى كورتاييف، وجاك جولد ستون، وليونيد جليفين- تحت عنوان «دليل الثورات فى القرن الواحد والعشرين» وعنوان تابع «الموجات الجديدة من الثورات، أسباب ونتائج قطع مسار التغيير السياسى».
الكتاب الصادر فى العام الماضى- ٢٠٢٢- عن دار نشر سويسرية، من نوعية الكتب الموسوعية، التى تتعامل مع ظاهرة الثورة مبدئيًّا من أجل المقارنة بثورات القرنين التاسع عشر والعشرين، تلك الثورات التى جرَت فى قرن هنا، وأخذت اسم «الربيع» المسجل بأسماء الزهور «الياسمين واللوتس» والألوان البرتقالية والبنفسجية، وهكذا تقسيمات.
ولم تكن هناك مصادفة أن ثورات «الربيع العربى» أخذت جزءًا محترمًا من المجلد، وكان طبيعيًّا أن يكون فى القلب منها ما جرى فى مصر فى مطلع العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين.
وتاريخيًّا كانت الثورات تحدث عادة فى شهر يوليو فى قلب الصيف القائظ، وأصبحت فجأة تحدث فى شهر يناير، حيث الشتاء القارس والزمهرير، الذى يلفح الوجوه.
والحقيقة أنه فى مصر لم يشهد شهر يناير ثورة واحدة تحتفى بوجودها الجماعة السياسية المصرية مدحًا وذمًّا اليوم بعد مرور دستة سنوات على حدوثها. كانت هناك ثورة أخرى جرت قبل ذلك، وربما لو قُدِّر لها النجاح لما كانت هناك ضرورة لما لحق من ثورات.
مضت أربعة وأربعون عامًا على وقوع هذا الحدث الهائل عندما خرج المصريون بمئات الألوف أو قيل بالملايين فى ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ احتجاجًا على ارتفاع الأسعار ورفع الدعم عن السلع التى لم يكن أحد ينتجها إلا الحكومة.
القصة ربما بدأت فى أكتوبر ١٩٧٣ حينما وجد الشعب المصرى أن بمقدوره أن يتجاوز هزيمة كبرى حفرت فى أعماقه إحساسًا بالمهانة، فإنه لم يقدر أن النتيجة حدثت بفعل عمل شاق وعرق غزير ودماء كثيرة.
كان ذلك ما أراده تحديدًا الرئيس أنور السادات عندما وضع سياسة الانفتاح الاقتصادى، التى لم تكن تعنى إلا الكثير من العمل، والكثير من الإنتاج والتصدير والانفتاح على عالم آخذ فى التقدم على جميع الجبهات.
علينا ألّا ننسى أنه فى عام ١٩٧٧ ومن بعده عام ١٩٧٨ كانت الأعوام التى اتخذت فيها الصين قرارًا مصيريًّا بأن تشمر عن ساعديها وتعمل بكل قوة أكثر مما تتكلم بكل حماسة الكتاب الأحمر، وكانت ذات الأعوام التى وُلدت فيها «النمور الآسيوية»، التى قررت فيها دول أن تعتمد على نفسها، وهو ذات القرار الذى لم تتأخر فيتنام ذاتها فى اللحاق به قبل نهاية القرن العشرين.
ضاعت الفرصة فى مصر، فى وقت بات العالم ينظر لها نظرة مختلفة عما كان يظنه فيها من قبل؛ ولم تتوقف السياسة التنموية فقط، وإنما لحقها اغتيال الرئيس السادات. وعلى مدى عقد كامل من ثمانينيات القرن العشرين، ظلت قصة ثورة الخبز وقتل رجل الحرب والسلام حاكمة وآمرة بإدارة الفقر، وتلافى الإصلاح الذى لا يأتى إلا بآلام كثيرة لا يريد أحد تحملها متصورًا أن الدول تتقدم من خلال ما يأتى إلى جيوب مواطنيها، وليس من خلال إقامة الصروح ونشر العمران وسهر الليالى للعمل والإبداع.
لم يكن مفهومًا ليس لماذا قام المصريون بثورة الخبز، وإنما لماذا سكتوا بعدها لعقد كامل، بينما العشوائيات تنتشر، والفكر السلفى يسود، ولماذا لم يعد السؤال: لماذا تخلفنا؟، مطروحًا، ولا تساءل أحد عن زيادة الإنتاجية للعامل ولا لرأس المال، وعندما نشبت ثورة يناير التالية فى ٢٠١١ فإن هذه الأسئلة لم تكن مطروحة.
كان الهتاف مطالبًا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ولكن بعد ذلك لا شىء، وبقدر ما كان مطلوبًا زيادة الحد الأدنى للأجور، وتحديد الحد الأعلى للأجور مهما كانت الكفاءة والعلم والقدرة والمهارة والإبداع؛ فإنه لم تكن هاك إشارة واحدة للعمل ولا للإنتاجية.
كان لكل ذلك أن ينتظر حتى تأتى ثورة أخرى، فى يونيو ٢٠١٣ هذه المرة، وفيها ربما آلت إلى طريق يضع مصر فى طريق الصين وفيتنام ودول أخرى.
هذه قصة جديدة، وآفة حارتنا قد لا تكون فقط هى النسيان، وإنما أن نطرح الأسئلة: لماذا تخلفنا؟، ولماذا يستمر تخلفنا؟، وهل نريد لمصر حقًّا أن تكون قوية وعظيمة ومتقدمة، وتستحق منا الكثير من الجهد والتفكير والتجديد والتقييم لما حدث؟.