بقلم: عبد المنعم سعيد
لم تكن هناك قضية فى العالم العربى، سواء كانت لها علاقة بالتحرر أو بالتنمية والبناء للدولة، ومكانتها بذلك التخصيص الذى جعلها «القضية» وكثيرا ما أضيف لها «المركزية» سوى تحرير فلسطين. كان فى الأمر الكثير من المنطق، لأن فلسطين تقع فى قلب العالم العربى بين جناحيه الشرقى والغربى، وهى القضية التى ظلت عصية على الحل على مدى القرن العشرين، والآن طفت بيننا، خلال القرن الواحد والعشرين، وهى الآن أيضا تسجل فى منافسة قوية مع قضايا أخرى فى الدول العربية، يقع فى مقدمتها التنمية والتقدم، بات هناك الكثير من المعادلات صعبة الحل، فالقاعدة العامة لحركات التحرر الوطنى العربية للتخلص من الاستعمار قامت على أن كل حركة عليها الاعتماد على نفسها، بينما يقوم باقى العرب بالتأييد المعنوى والمادى، كل حسب قدراته. فلسطين ومكانتها جعلت الفلسطينيين يطلبون الاستقلال بالقرار، لكنهم كلما اشتد الكرب الإسرائيلى يتساءلون «أين أنتم يا عرب؟»، باتت المسافة ما بين التعريب و«الفلسطنة» تمتد وتتقلص، بينما الواقع الفلسطينى ذاته منقسم إما عائليا أو حزبيا أو إقليميا أو كل ذلك معا. ما جعل المسألة أكثر تعقيدا أن الثقافة العربية عرفت الأدب والشعر والرواية والموسيقى والفلسفة، ولكن الفكر الاستراتيجى جاءها متأخرا كثيرا، وحتى عندما جاء من خلال مركز الدراسات الفلسطينية، ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية (كلاهما ١٩٦٨)، فإنه لم يتسلل إلى الثقافة العامة. ظل السائد فى التعامل مع «القضية» دائرا فى حماسيات الشعر والخطابة، ومؤخرا دخل القانون الدولى فى تلك الحالة من التساؤل حول «المجتمع الدولى» الذى بات عربيا معادلا لقانون الدولة القادر على الجزاء والعقاب. «الاستراتيجية» ظلت غائبة، وتحديد الهدف صعبا، ومعرفة القدرات وتوازنات القوى مستغربا، وأحيانا يُدان بالانهزامية. نزار قبانى كان متطرفا ومثيرا للألم بعد حرب يونيو ١٩٦٧ حتى عرّف «الفكر الذى قاد إلى الهزيمة» «بالعنتريات التى ما قتلت ذبابة» لأنها نتجت «من مواهب الخطابة» و«بمنطق الطبلة والربابة». لكنه لم يضع يده على الفكر الغائب عن العلاقة بين السلاح والسياسة فى تحقيق الأهداف العامة للكيان السياسى. وفيما عدا محاولات قليلة، أبرزها ما قدمه أستاذنا محمد حسنين هيكل، فإن الحروب العربية (والفلسطينية) الإسرائيلية لم تجر دراستها لأن الوثائق كانت دائما غائبة حتى بعد مضى مسافات كافية من الزمن.
العكس كان حادثا فى إسرائيل، لكن بعضا من التقدم العربى جرى عندما تم إنشاء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى جامعة القاهرة، ومن بعدها المراكز المذكورة أعلاه، ولكن الاستراتيجية ظلت دائما فى مسار فهم إسرائيل وليس كيفية التعامل معها. حدث أيضا التقدم العملى عندما بدأت مصر فى التعامل مع كارثة يونيو ١٩٦٧ من خلال حرب الاستنزاف التى كانت واقعة ضمن حدود الإمكانيات المصرية، وفى الوقت نفسه جعلت الاحتلال مكلفا بالنسبة لإسرائيل، ووجدت من العالم اهتماما جاء من خلال مبادرة روجرز الأمريكية. كانت المبادرة مهمة فى توقيت تحتاج فيه مصر وقتا لبناء حائط الصواريخ، لكن القوى الفلسطينية المختلفة اعتبرته بداية «التصفية» للقضية، وجاء الهجوم على عبدالناصر من قبل فصائل ظنها حليفة. كانت الأيديولوجيات لا تسمح بالكر والفر، وإنما باختيارات لا تزيد عن المفاضلة ما بين الانتحار والاستسلام. وعندما تولى الرئيس السادات القيادة فإنه أخذ «الاستراتيجية» القومية إلى أبعد المسافات من «الأيديولوجية» و«النضال» وقربها من تحقيق هدف تحرير الأرض بدأت من خلال وضع أهداف محدودة وممكنة للاستخدام المظفر للسلاح، وفى ذات الوقت تحقيق التكامل ما بين الأدوات العسكرية والدبلوماسية والإعلامية والاقتصادية أيضا وتفعيلها فى تناغم لتحقيق الخروج الإسرائيلى من سيناء.
لم تكن هناك صدفة فى أن الرئيس السادات أعلن عن استعداده لفتح قناة السويس قبل الحرب الذى هو تعبير عن نوايا سلمية، ولا لفتح قنوات اللقاء مع الولايات المتحدة من خلال مستشار الأمن القومى السفير حافظ إسماعيل وهو منصب كان جديدا على الرئاسة المصرية لكى يتقابل مع هنرى كيسنجر. جرى لقاءان عرف منهما السادات أمرين، بينما الاستعدادات لحرب أكتوبر على قدم وساق، أولهما أن الولايات المتحدة منشغلة بأمور أخرى داخلية (فضيحة ووترجيت) وأخرى خارجية (الوفاق مع السوفييت وإنهاء حرب فيتنام). وثانيهما أنه عندما يكون لدى كيسنجر الوقت فإنه سوف يبدأ مفاوضات على مصر أن تعرف منذ بدايتها أنه سوف يكون عليها أن تكون على استعداد لتقديم تنازلات سياسية وإقليمية أى من الأرض المحتلة. لم يكن ذلك مفاجئا للسادات، لكنه كسب طريقا إلى واشنطن سوف يثبت تأثيره الإيجابى بعد نشوب الحرب. كان الوقت مطلوبا لاستكمال الاستعداد العسكرى، وأيضا للتأكيد على الحلفاء العرب لاستخدام سلاح النفط.
التفاصيل بعد ذلك ذائعة، لكن الفارق بين «الاستراتيجية» و«الحنجورية» الساخنة بالكلام أنها تحقق الهدف. الحنجوريون بعد حرب أكتوبر تساءلوا عما إذا كانت الحرب «تحريرا أو تحريكا»، وبعد أقل من عقد كانت الأرض المصرية كاملة محررة، وللأسف فإن مرتفعات الجولان لاتزال محتلة. فلسطين ظلت قصتها معلقة ما بين الدبلوماسية التى أخذتها إلى «أوسلو» أول سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الفلسطينية عرفها التاريخ، والجهاد الدينى من ناحية أخرى التى دمرت أوسلو فى تسعينيات القرن الماضى، وقسمت السلطة الفلسطينية بين الضفة والقطاع بتعاون كامل مع إدارات نتنياهو المختلفة مع بداية القرن الواحد والعشرين. الغريب فى الأمر أن مصر التى ظلت دوما حاضنة للقضية قدر استطاعتها وقدراتها أصبحت تواجه تحدى ثقوب الأنفاق الفلسطينية فى حدودها المباشرة مع غزة. لم يكن أبدا مفهوما كيف يمكن تحرير فلسطين من خلال تهديد الأمن القومى المصرى بمساعدة وتدريب إرهابيين مصريين. ولا كان مفهوما أنه بينما كانت مصر تبذل قدر استطاعتها معاونة الفلسطينيين خلال حروب غزة الأربع السابقة بالإنقاذ والإعمار والدبلوماسية لوقف القتال، فإن حفر الأنفاق تجاه مصر ظل جاريا. لم يكن ذلك لا مفهوما ولا يجرى فى نسق استراتيجى أكثر من لافتة «المقاومة» التى جعلت أرضا محررة محتلة مرة أخرى، والمدهش أكثر أن المؤيدين فى مصر بينما يدافعون عن حق فى الحرب الخامسة عن الشعب الفلسطينى وشهدائه الأبرار من الجرائم الإسرائيلية، فإنهم لا يذكرون أبدا أنه وفق ما ذكره الرئيس السيسى فى إفطار الأسرة المصرية الرمضانى عام ٢٠٢٢ أن مصر فقدت من ٢٠١٣ حتى وقته ٣٢٧٧ شهيدا و١٢٢٨٠ مصابا من القوات المسلحة والشرطة، أما مع المدنيين، ومنهم قتلى مسجد الروضة ٣١٥ فى شمال سيناء، فسوف يتجاوز الرقم خمسة آلاف. وفى الدراسة القيمة للمركز المصرى للدراسات الاستراتيجية حول «تكلفة التطرف والإرهاب» (٢٠٢٣) فإنه خلال الفترة من ١٩٩٠ إلى ٢٠١٩ بلغ إجمالى العمليات الإرهابية فى مصر ٢٥٩٥، كان منها ١٣٨٧ فى شمال سيناء، حيث كانت الأنفاق الجهادية بنسبة ٥٣.٤٥٪ من العمليات. رحم الله شهداء مصر وفلسطين ولا غفر لمن يتاجرون بدمائهم دون تحقيق هدف