بقلم - عبد المنعم سعيد
لا أدرى متى كانت آخر المرات التى زرتُ فيها «المجلس الأعلى للثقافة» لسبب أو آخر أو حتى الاقتراب منه فى المسرح الصغير، حيث كان الاحتفال بمناسبات وطنية.. أو حتى دار الأوبرا القريبة التى تعثّر الذهاب لها مع الجائحة.
قبل عقود، كان أستاذنا د. عبدالملك عودة- رحمه الله- قد قاد وجودًا خاصًا للعلوم السياسية فى المجلس العريق، حيث بات على تلاميذه اللحاق به أينما يكون. بعدها، تولى المهمة فيما أذكر د. على الدين هلال، الذى ربما كان الاحتفاء به وتكريمه آخر المرات التى دخلت فيه أحد أدوار المجلس للحديث والتكريم لعالم كبير وصديق عزيز. الآن، جاءت الدعوة الكريمة للمشاركة فى ندوة «الثقافة والتقدم» عبر الأستاذة الدكتورة سهير عبدالستار، الزميلة عضو مجلس الشيوخ الموقرة، والتى يديرها أ.د مصطفى النشار، أستاذ الفلسفة بكلية آداب جامعة القاهرة، ويشارك فيها مع الزميلة أ.د أنور مغيث، أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب جامعة حلوان.. كان الجمع فى معظمه من المشاركين فى عالم الفلسفة، التى هى المنبع الطبيعى لكل الروافد النظرية للعلوم الإنسانية التى تجرى فيها «العقلنة»- من العقل- لحقل ما من الوجود الإنسانى. بالنسبة لى، فإن حقل العلوم السياسية كان قد استقل أو انشق إلى حد كبير عن الفلسفة فى عمومها عندما جاء «مكيافيللى» لكى يجعل للدولة و«الأمير» حقلا خاصا. والآن، بات علىّ الحديث عن «الفلسفة والتقدم» وسط جمعٍ من الفلاسفة.
«التقدم» فى أكثر أشكاله بساطة هو انتقال الإنسان من حال إلى آخر، تتغير فيه الأمور العملية، وهذه فى العموم تقع فى إطار نظريتين تفسران النقل والحال الذى صفته إيجابية.. النظرية الأولى وجدت فى إطار عملية «الخلق» التى أتت مع آدم وحواء ونزولهما إلى الأرض لبدء الخليقة كما نراها الآن. الأنبياء والرسل فى الديانات السماوية وغير السماوية سعوا من خلال «الحلال والحرام» لكى ينتقل الإنسان من المراتب الدنيا إلى تلك العليا فى الحياة الدنيا والآخرة. هنا، فإن الإنسان ملك نفسه للتحكم فى غرائزه وحماية عقله من شيطان الخطيئة والمعصية، فإذا ما سار ذلك فى الدنيا، فإن الجمع الإنسانى الصالح سوف يكون متقدما.
الديانات الآسيوية مثل البوذية والكونفوشيوسية والهندوسية ألقت تعاليم من خلال حكيم فى العادة تحكم الإنسان فى شروره من خلال آليات للتأمل والانضباط، مثل «اليوجا». فى الحالتين، وبغض النظر عما إذا كان الدين هو هذا أو ذاك، فإن الإنسان قد حل ألغاز وإشكاليات نهاية حياته فى الدنيا بالموت من خلال حياة أخرى يأتيه فيها الحساب بالعقاب القاسى أو بثواب الجنة، حيث يوجد كل ما يصبو إليه من شغف وامتلاء. هنا يكون الإنسان قد بلغ التقدم الأعظم فى مرحلته الجديدة.
النظرية الثانية قامت على التطور المتصور من خلال خلية عضوية جاءت قابلة للانقسام بعد الانفجار الكونى الكبير أو ما يسمى «البج بانج»، تنقسم الخلية أو تلتحم «النطفة» فى إطار النظرية الأولى وتبدأ رحلة الإنسان عبر مليارات السنين حتى يبلغ المرحلة حديثا قبل ٣٠٠ ألف عام وقف فيها الإنسان على قدميه فى لحظة فريدة، ربما تكون هى ذاتها التى علّم فيها السميع العليم آدم «الأسماء كلها» فى لحظة لتنوير العقل وفهم علاقات الأشياء وآليات انتقال البشرية من التخلف إلى التقدم. وفى العموم، فإن فجر التاريخ شهد ذلك التمييز ما بين «البربرية» التى يعيش فيها الإنسان على غرائزه الخاصة، والحضارة «حيث عرف الإنسان القواعد والقوانين المنظمة للعلاقات والتفاعلات». المعضلة التى أثارها «أفلاطون» فى كتابه «القوانين» كانت عما إذا كان مصدر القواعد والقوانين هو الآلهة أم البشر، فإذا كان الأول فإن حكمها مطلق ولا يمكن تجاوزها؛ أما إذا كان الإنسان، فهنا يمكن «التطور» والتغيير عندما يكون جوهر «السياسة» هو وضع أكثر القوانين كفاءة لحكم البشر والتى لابد لها من التغير حسب التطورات والتعقيد الذى يواجهه بنو البشر. هذه الحالة تستدعى «السياسة»، باعتبارها وضع القوانين المنظمة لعمل البشرية، ولكن هذه تحتاج قدرا كبيرا من «الحكمة» التى لا توجد بين صغار السن، وهى لا تتأتى إلا من خلال ضبط المعايير ما بين المحافظة على ما هو قائم وهو ما يعنى الجمود أو تغييره كلية دون تروٍّ أو حصافة، وهو ما يعنى الثورة. العصر الحديث كان أكثر جرأة فى دفع نظرية التطور على يد فلاسفة وعلماء مثل «داروين» الذى رأى التغيير يأتى من خلال «التحدى والاستجابة»، والاختيار الطبيعى الذى ينهى الفاشل ويبقى الناجح، ويستبعد الضعيف ويبقى القوى، وهكذا يكون «التقدم».
هيجل فى فلسفته المثالية جعل التقدم مسيرة داخل الوعى الإنسانى، ومن ثم كانت الثورات الزراعية والصناعية؛ أما ماركس فقد أخذ مسار المادية الجدلية التى جعلت من قوى الإنتاج والتكنولوجيا آليات خاصة بالانتقال من البسيط إلى المعقد، ومن التغيرات الكمية إلى التغير الكيفى. وفى الحالتين، انتقل الإنسان فى واقعه من «الأمة» أو الدولة القومية إلى «العولمة».
فى مصر، التى رأى فيها أفلاطون حضارة كبرى صاحبها يميل إلى الجمود فى التقاليد والقوانين؛ وفى عصرنا هذا فربما لا يوجد بين المصريين من لا يريد لمصر أن تكون واحدة من الدول المتقدمة فى العالم، ولكن التقدم كان يعنى لدى جماعة «دولة فاضلة»، ولدى أخرى «دولة قائدة»، وثالثة رأتها «دولة ثورية تغير نفسها والعالم معها». وفى كتاب صدر لى عام ٢٠٠٤ «مصر دولة متقدمة» اعتمد على البحث فى العالم المعاصر عن مفاتيح التقدم خاصة خلال العقود الأخيرة، حيث خرج ملياران من البشر من أَسْر الفقر والحاجة إلى حرية الاختيار والقدرة. وأولى سمات هذا العالم هى أن الدول التى تقدمت كانت هى التى تحقق معدلات نمو مرتفعة خلال فترة زمنية معقولة (عقدين تقريبا).. وإذا كانت بريطانيا استغرقت قرنًا لكى تضاعف الناتج القومى الإجمالى فى بداية نهضتها الصناعية، فإن الولايات المتحدة فعلتها فى نصف قرن؛ أما ألمانيا واليابان بعد الحرب الثانية والنمور الآسيوية بعد الحرب الفيتنامية، فإنهم حققوا ذلك خلال عشر سنوات. وهناك الآن مؤشرات على أن فيتنام حققت ذلك فى ثلاث سنوات فقط. فى كل هذه الدول قام التقدم على أكتاف عناصر؛ أولها النهاية التامة للأمية، وثانيها القدرة على اكتشاف الثروات واستثمارها، وثالثها التقدم العلمى والتكنولوجى والتنظيم والإدارة العلمية لعملية التغيير. كل هذه الشروط لا تأتى بنتائج التقدم إلا إذا توافرت روح «المنافسة»، سواء كان ذلك فى مجال السياسة أو الاقتصاد، حيث تدخل أشكال مختلفة من الديمقراطية والرأسمالية؛ وفى مصر، فإن كل ذلك ممكن مع الحكمة والحصافة. وكان ذلك ما قلته فى جمع الفلاسفة فى المجلس الأعلى للثقافة، وبعد ذلك دار حوار راق وشيق ومثير.