بقلم - عبد المنعم سعيد
عنوان هذا المقال مشتق أساسًا من «تقدير موقف» أو «أوراق سياساتية نقدية» قام به د. خليل شقاقى، رئيس المركز الفلسطينى للبحوث السياسية والمسحية، بعنوان: الطريق إلى الاصطدام: سلطة وطنية ضعيفة و«إسرائيل جديدة» قومية ودينية. أهمية هذا التقدير أنه يأتى من دارس للشأن الفلسطينى ويقع على رأس الباحثين السياسيين العرب المُقدرين محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا فى كل ما يخص الشأن الفلسطينى. كما أنه يأتى من طبيعة العمل الذى يقوم به مركزه فى رام الله من استطلاعات الرأى التى تتمتع بمصداقية كبيرة فى دوائر البحث والسياسة فى العالم. الورقة السياساتية هكذا تعتمد على تحليل دقيق للرأى العام الفلسطينى والإسرائيلى، ولحالة القوى السياسية السائدة فى إسرائيل وفلسطين.
ملخص الورقة يأتى فى مقدمتها على الوجه التالى: قد تكون هذه اللحظة نقطة تحول فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، ربما بنفس أهمية نقطة التحول تلك التى تبلورت قبل 30 عامًا بالضبط وأصبحت تُعرف باسم عملية أوسلو. وفى حين أنه من الصعب تقييم النتيجة المستقبلية للديناميات الحالية، إلا أنها لا تبدو جيدة بالنسبة لفلسطين أو إسرائيل. سيتشكل المستقبل القريب عند تصادم تطورين، أحدهما فلسطينى والآخر إسرائيلى. فى الجانب الفلسطينى، وصلت السلطة الفلسطينية الآن إلى النقطة التى لم تعد فيها قادرة على تلبية توقعات إسرائيل الأمنية فى ضمان «احتكار» القوة المسلحة فى المناطق الخاضعة لسيطرتها. ويتجلى هذا التطور حاليًا فى تشكيل جماعات مسلحة يقودها شباب فلسطينيون فى المدن ومخيمات اللاجئين، وأبرزها فى الجزء الشمالى من الضفة الغربية. ويعتقد الفلسطينيون اعتقادًا راسخًا أن التكاليف التى فرضت على إسرائيل خلال الانتفاضتين الأولى والثانية هى التى أقنعتها باعتبار الدولة الفلسطينية مصلحة وطنية إسرائيلية. وهذا الاعتقاد بفاعلية القوة هو الذى يغذى الآن صعود الجماعات المسلحة فى الضفة الغربية. على الجانب الإسرائيلى، تظهر «إسرائيل جديدة» تتميز بأيديولوجيا قومية دينية حريصة على تحجيم إسرائيل العلمانية التى عرفها الفلسطينيون خلال معظم السنوات الثلاثين الماضية، منذ اتفاق أوسلو، وعلى تأكيد سيطرة إسرائيل الدائمة على الضفة الغربية. إن تشكيل اليمين الحالى، أى القومى والقومى- الدينى، والحكومة المتطرفة التى تمثله، والتى تهيمن عليها لأول مرة فى تاريخ إسرائيل أحزاب سياسية دينية وقومية- دينية فى الغالب، هو أوضح إشارة حتى الآن على التطور الثانى. تُعيد «إسرائيل الجديدة» الصراع الفلسطينى الإسرائيلى إلى جذوره التاريخية الوجودية.
متن الورقة يصف الطريق والمتغيرات داخل الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية التى أدت إلى ذلك؛ ومن جانب آخر كيف كانت المتغيرات العالمية والإقليمية فاعلًا فى هذا التطور. الحقيقة التى يمكن اشتقاقها من هذا التحليل هى أن العالم لا يقف ساكنًا فى أى لحظة زمنية، وإنما تتراكم فيه تطورات صغيرة أو كبيرة سرعان ما تصبح تغيرات نوعية إما أنها تكون فارضة لصدام يبحث عن مقياس جديد لتوازنات القوى؛ أو أنها تكون باعثة على التفكير فى سبل أخرى للتعامل مع حالة سياسية معقدة. كان عالِم السياسة الأمريكى- لبنانى الأصل- إدوارد عازار هو الذى ابتكر وصف الصراع العربى الإسرائيلى بأنه «صراع مركب ومعقد أو Protracted Conflict» يتخلله العديد من الخلايا التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بحيث يجعل حله متعذرًا، حتى عندما تلوح فرص وموارد لحل الصراع. لقد مضت الآن ثلاثة عقود على توقيع «اتفاق أوسلو»، الذى فتح الباب على حل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، بينما سار الصراع العربى الإسرائيلى إلى مسار آخر تأثرًا بالإطار الإقليمى للأخير، بينما لا يزال الأول واقعًا داخل التشابك بين عناصره الأولية المتداخلة جغرافيًّا وديموغرافيًّا.
وبينما المؤكد أن الصراعين لا ينفصلان بشكل كامل، فإن قوانين حركة كليهما تفرض مداخل جديدة للتعامل مع العناصر المتشابكة ذات الطبيعة «الجيوسياسية» بالنسبة للأول؛ والعناصر «الجيوسياسية واجتماعية والثقافية» بالنسبة للثانى. المثال الواضح على ذلك له طبيعة «جيو استراتيجية» واضحة، فالبُعد الإيرانى الذى وجّه الضربات الصاروخية إلى السعودية والإمارات من خلال النافذة «الحوثية/ الإيرانية» كان هو ذاته الذى كان على علاقة وثيقة مع جماعات الإسلام السياسى فى غزة، وحتى مع السلطة الوطنية الفلسطينية فى رام الله. النتيجة المباشرة لذلك لم تكن كما تصورها الإسرائيليون أو الأمريكيون تكوين تحالف عربى إسرائيلى لمواجهة إيران، وإنما تحرير الإرادة العربية فى تكوين حساباتها الاستراتيجية بفتح النوافذ مع إيران وتركيا دون ممانعة مع إسرائيل إذا ما كان ذلك مفيدًا. والحقيقة هى أن «السلام الإبراهيمى» لم يكن هو وحده الساعى لاستيعاب إسرائيل فى المنطقة؛ وإنما كان استيعاب إسرائيل من خلال إنتاج وتوزيع وتصدير الغاز فى المنطقة سواء كان ذلك من خلال منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط، أو توقيع التفاهم بين مصر وإسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية من أجل إنتاج الغاز من «حقل غاز غزة البحرى»، الأمر الذى يتيح الموارد للشعب الفلسطينى. وربما دون قصد أو تدبير، فإن تخطيط الحدود البحرية مع لبنان يؤدى ربما دون قصد إلى تهدئة الأزمة اللبنانية، وإلى إنتاج الغاز فى الحقول المواجهة للبنان وما يقدمه من توفير موارد يلتف حولها الشعب اللبنانى.
عملية الاستيعاب لإسرائيل هذه لا تغض البصر عن الممارسات الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، فالواقع هنا أنه لا توجد شيكات مفتوحة على بياضها لإسرائيل لتفعل ما تراه بالشعب الفلسطينى سواء كان بالاستيطان المستمر أو الاعتداء الدائم. قرار المغرب بوقف اجتماع مجموعة النقب- إسرائيل والولايات المتحدة والمغرب ومصر والبحرين والإمارات- كان أولى الإشارات على أن هناك حدودًا للتعامل مع إسرائيل فى ظل سياساتها العدوانية الحالية تجاه الأراضى الفلسطينية المحتلة. مثل هذا الأمر يخلق اختيارًا ثالثًا للتعامل العربى والفلسطينى أيضًا مع إسرائيل، فلا يكون الصدام حتميًّا، ولا يكون السلام ممكنًا، ما لم تكفل السياسات الاستراتيجية تغييرات واقعية داخل الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية تكفل القدرة على التعامل مع القضية الفلسطينية من خلال المبادرة العربية، أو العمل من أجل الاستقرار والتنمية الاقتصادية فى الشرق الأوسط.
ولكن هذا الاختيار الثالث باستيعاب إسرائيل مثل تركيا وحتى إيران داخل منظومة شرق أوسطية تسود فيها «الإقليمية الجديدة» فى سعيها نحو التعاون سوف يظل ممكنًا تصادمه مع الشعب الفلسطينى، ما لم يتم الدفع فى اتجاه انتخابات إسرائيلية جديدة تكفل خروج اليمين المتطرف من الحكم؛ وتكفل عقد انتخابات فلسطينية جديدة تجدد الدماء الفلسطينية. هنا يكون التمييز بين الإسرائيليين فى تعاملهم مع الدول العربية ضروريًّا؛ ويكون ضروريًّا فى البداية السعى العربى لاستيعاب الفلسطينيين داخل إسرائيل، بحيث يكون فى مقدورهم المشاركة السياسية فى العملية الانتخابية دون تفتيت ما لديهم من أصوات فى تكتلات صماء غير منفتحة على مصالح محلية أو إقليمية تخص القضية الفلسطينية فى جوهرها. ٢١٪ من سكان إسرائيل من العرب الفلسطينيين، وبمقدورهم تكوين جبهة وطنية لا تُخرج اليمينيين المتعصبين من الحكم فقط، وإنما يكون بمقدورها بناء جبهة من الوسط واليسار تغير من إسرائيل وأقدار المنطقة