بقلم - عبد المنعم سعيد
لولا نشوب الحرب الأوكرانية على مدى الشهور العشرة الماضية لما كان لفولوديمير زيلينسكى أن يكون جزءًا من التاريخ العالمى المعاصر. فى غياب الحرب كانت كل السيناريوهات مفتوحة، ومنها أن يجرى تجميد توسع حلف الأطلنطى إلى أوكرانيا، أو يتم استبدال ذلك ببعض الترتيبات الدفاعية، أو حتى لا يجد الشعب الأوكرانى سببًا لمواجهة روسيا، التى كانت حتى وقت قريب جزءًا مشاركًا فى «الاتحاد السوفيتى». وفى الحقيقة أن أوكرانيا ذاتها لم تكن عضوًا عاديًّا فى هذا الاتحاد، فقد كانت من الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية، حتى إن الرئيس السوفيتى ستالين، الأشهر بعد لينين، كان هو الذى ضم منطقة القرم إلى أوكرانيا؛ وكذلك فإن نيكيتا خروشوف، السكرتير العام للحزب الشيوعى السوفيتى، (١٩٥٣-١٩٦٤)، وُلد فى مقاطعة واقعة على الحدود الروسية الأوكرانية، حيث يختلط الشعبان فى وحدة شيوعية منضبطة. كانت أوكرانيا بالنسبة للاتحاد السوفيتى تجمع ما بين القاعدتين الصناعية والزراعية وفوقهما جزء مهم من القدرات النووية، وفيها وقعت واقعة «تشيرنوبل»، التى جرى فيها أسوأ الحوادث فى المفاعلات النووية فى العالم. المدهش هو أن روسيا تحت قيادة «بوريس يلتسين»، (١٩٩١-١٩٩٩)، كانت هى التى أعلنت استقلال روسيا وفك الاتحاد السوفيتى إلى 15 جمهورية مستقلة. أوكرانيا الجديدة لم يكن لديها الكثير من التاريخ، فقد تراوحت تبعيتها تاريخيًّا بين اللحاق بروسيا سواء كانت القيصرية أو السوفيتية من ناحية أو الانخراط فى الدول الغربية أو فترات مستقلة متفاوتة. ما حدث بعد الاستقلال أن الساحة السياسية الأوكرانية تراوحت ما بين الاتجاهين، وكان زيلينسكى جزءًا من هذه المراوحة، حيث وُلد فى إقليم فى منتصف أوكرانيا من أسرة يهودية متحدثًا باللغة الروسية فى عام ١٩٧٨ ومواطنًا فى الاتحاد السوفيتى، وبعد الاستقلال عاش تلك المراوحة، التى جعلت أوكرانيا تتنازل عما لديها من قدرات نووية؛ ومن ناحية أخرى تحاول الاقتراب من المعسكر الغربى، ممثلًا فى حلف الأطلنطى والاتحاد الأوروبى.
العالم يعلم أن زيلينسكى كان ممثلًا كوميديًّا، ولكنه لم يكن ممثلًا عاديًّا، والواقع أن تاريخ الممثلين فى السياسة العالمية ليس سيئًا، فقد كان «رونالد ريجان» الأمريكى رئيسًا لا يُشَقّ له غبار. وفى الساحة الأوكرانية فإن الممثل الشاب كان مندرجًا فى المسرح السياسى، واتخذ من مسرحية له تحت عنوان «فى خدمة الشعب» اسمًا لحزب سياسى دخل به إلى الساحة المنافسة لكى يفوز فى ٢٠١٩ بأغلبية ساحقة قدرها ٧٣٪. كانت الثورات الملونة قد ذاعت كثيرًا فى الساحة الشرق أوروبية، ونتج عن هذه الحالة من عدم الاستقرار تأرجح فى الحركات السياسية بين الاقتراب من موسكو والتودد لواشنطن وبروكسل. زيلينسكى كان فى هذا التيار الأخير لأن سابقه، «بيترو بوروشينكو»، كان منتميًا للتيار الأول، وبشكل ما كانت القاعدة العرقية لكل منهما ما بين المنتمين للمتحدثين باللغة الروسية وهؤلاء المنتمين للغة والقومية الأوكرانية. الرئيس الجديد المنتمى للغتين كلتيهما جعل فى سياساته الأولية التأكيد على الوحدة الوطنية بين الطائفتين، مع محاولات لتحسين العلاقات مع موسكو، التى تزايدت مخاوف الأوكرانيين منها، بعد قيامها بالاستيلاء على إقليم القرم عام ٢٠١٤. الأزمة الأوكرانية، التى بدأت مع الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، وضعت زيلينسكى فى موقف مَن يريد منع الحرب من ناحية، وهو ما يعنى ممالأة موسكو، والاستعداد للحرب إذا حدثت، وهو ما يعنى الاقتراب بقدر ما يمكن من المعسكر الغربى. مع اشتداد الأزمة، وما أعلنته المصادر الأمريكية من خطط الغزو الروسية، لم يعد لدى الرئيس الأوكرانى خيارات كثيرة، وكان خياره هو الدفاع عن أوكرانيا.
كانت مفاجأة زيلينسكى الأولى عندما رفض الاقتداء بالتقاليد، التى جرَت أثناء الحرب العالمية الثانية عندما هربت القيادات السياسية والحكومة فى الدول التى قامت ألمانيا بغزوها باللجوء إلى العواصم الأوروبية، خاصة لندن. قرر البقاء فى العاصمة كييف والدفاع عنها، مستخدمًا فى ذلك القوات العسكرية الأوكرانية أولًا؛ ومن ورائها المتطوعون الأوكرانيون من الذكور، الذين بات عليهم البقاء فى أوكرانيا، بعد ذهاب ذويهم من النساء والأطفال اللاجئين إلى بلدان أوروبية مجاورة أو بعيدة. المفاجأة الثانية أن الغزو الروسى لأوكرانيا، على عكس ما تخيل الرئيس الروسى، بدأ سلسلة من الفزع داخل أوروبا كلها، ومن ثَمَّ بدأت الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية فى مواجهة الغزو بوسائل عقابية اقتصادية، واستقبال اللاجئين الأوكرانيين، وتقديم أشكال هائلة من المساعدات الاقتصادية والعسكرية والمخابراتية والاستراتيجية فى العموم إلى أوكرانيا. وكانت معركة كييف وصمودها أمام الغزو الروسى وتحول القوات الروسية نحو الشرق الأوكرانى، حيث منطق المتحدثين باللغة الروسية، بداية تحولات استراتيجية كبرى فى العمليات العسكرية لا تزال معنا حتى اليوم.
مفاجأة زيلينسكى الثانية لم تكن عسكرية فقط، فسرعان ما تحول إلى هجوم مضاد حرر بعض المناطق الأوكرانية، وفتح الطرق إلى البحر الأسود بعد تحرير خيرسون؛ وإنما أكثر من ذلك سياسية. جعل من خطابه اليومى إلى الشعب الأوكرانى بناء للمصداقية السياسية العسكرية وشحن بطاريات الوطنية الأوكرانية. تواجده المتكرر فى المواقع العسكرية الأمامية على خطوط القتال بات لافتًا ليس فقط للشعب الأوكرانى، وإنما أصبح مبررًا لدى الحكومات الأوروبية والأمريكية لعدم التراجع عن تقديم العون بالسرعة والكفاءة اللازمة. ولكن الضربة السياسية الكبرى جاءت من خلال خطة قوية للحديث مباشرة مع برلمانات الدول الغربية ومؤسسات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى من خلال الوسائل الافتراضية، حيث نجح فى تحقيق عزلة أخلاقية للرئيس الروسى، بينما كان يدفع فى اتجاه تقديم المساعدات. خطابه أمام الكونجرس الأمريكى مباشرة فى واشنطن جاء فى توقيت مرور ٨١ عامًا على خطاب رئيس الوزراء البريطانى، ونستون تشرشل، إبان الحرب العالمية الثانية، والذى جاءت فيه المطالبة بالوقوف إلى جانب بريطانيا فى الحرب. فى هذه الخطبة كما فى كل الخطب السابقة، لم يطلب تأييدًا عسكريًّا مباشرًا، وإنما رسخ لمفهوم أن أوكرانيا تدافع فى حربها عن الأمن الدولى وأمن الدول التى يتحدث أمامها، مستغلًّا تقسيم الولايات المتحدة العالم بين «الديمقراطيين والسلطويين» لكى تكون حربه دفاعًا عن الديمقراطية.
مفاجآت زيلينسكى لم تَخْلُ من مفارقات، فقد كان موقفه المدافع عن الأرض الأوكرانية ضد الاحتلال الروسى، والموقف العالمى المؤيد له، فاتحًا لضرورة الدفاع عن كل البلاد المحتلة فى العالم، وفى المقدمة منها الشعب الفلسطينى وأراضيه الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلى. وحتى لا يكون هناك لبس فى هذه القضية، طلبت السلطة الوطنية الفلسطينية من الأمم المتحدة عرض الأمر على محكمة العدل الدولية لكى تقرر ما إذا كان الوجود الإسرائيلى فى الأرض الفلسطينية احتلالًا أم لا. التصويت الأوكرانى على قرار الإحالة كان إيجابيًّا مع الأغلبية الدولية، التى قررت ذلك من حيث المبدأ، ولكن عند التصويت النهائى على الإحالة، كان نتنياهو قد وصل إلى قيادة إسرائيل، وبعد اتصال تليفونى منه إلى زيلينسكى، اختفى مندوب أوكرانيا فى الأمم المتحدة ساعة التصويت!.