بقلم - عبد المنعم سعيد
عنوان هذا المقال مستعار من مقال الأستاذ غسان شربل «الرصاصة الأخيرة»، فى صحيفة «الشرق الأوسط» الغراء، والذى سجل فيه مشاعره مع نهاية عام وبداية آخر بكثير من الحساسية والمشاعر المرهفة، التى تأخذه إلى «المكتبة» الواقعة فى عصر آخر جاء ما بعد عصور «القرطاس والقلم». الكلام يبدو فلسفيًّا، ولكنه ينزل بسرعة، ولو بضغط عدد الكلمات المرصودة، ليكون حسرة عندما يصل إلى لبنان وحالها الصعب بلا رئيس ولا وزارة، وبقدر هائل من حيرة مَن لا يعلم أين يذهب؛ ولكنه ينتفض بالأمل حين يصل إلى الهند عندما يرصد فيها قفزة ونهضة اللحاق بالمتقدمين فى العالم المعاصر.
المعادلة تبدو فى طريقها إلى الاختيار، الذى يُفضى إلى «النكبة» أو إلى الدخول إلى سباق عالمى قوامه أنه مفتوح دائمًا لإضافات جديدة فى العدْو أو بالأحرى الإنتاج والإضافة بما تيسر وزاد. الهند مضت عليها ثلاثة عقود تقريبًا، وهى بالفعل تناضل من أجل دخول السباق العالمى عندما بدأت تدرك فى عام ١٩٩٢ أن السبيل الذى أخذها إليه جواهر لال نهرو وعائلة غاندى كلها لم يكن هو الطريق الذى يأخذها إلى منافسة جادة مع الصين القريبة، وحزمة نمور جنوب شرق آسيا، فضلًا عن العالم الواسع. هو زمن ربما كان ضروريًّا فى فترة التخلص من الاستعمار فى العالم، وأن تظل تمسك بتلابيبه، وتتخيل أن النضال ممتد والكفاح دوار؛ ولكن لذلك مدى لا ينبغى أن يطول لأن القضية لم تعد كيف تحصل على الاستقلال، وإنما ما الذى سوف تفعله مستقلًّا.
هنا، فإن حديث «الرصاصة الأولى» يصبح مقدمًا على «الرصاصة الأخيرة» عندما يسود إدراك أن القضية ليست واقعة فى عالم لا يروق لنا، وإنما ما الذى نفعله داخلنا لكى يعترف بنا الكون. عندما كتبت مقالًا الأسبوع الماضى داعيًا إلى أن تكون «الجمهورية الجديدة» فى مصر هى أن تكون مصر بلدًا عاديًّا يعيش وفق القواعد التى يسير عليها العالم المتقدم، الذى يتقدم حين تدرك الدولة أن مصادر الثروة توجد فى داخلها، وأن التقدم يأتى بسواعد أهلها. ولعلنا فى ذلك محظوظون، حيث إنه من المعلوم أن بريطانيا العظمى ضاعفت ناتجها القومى الإجمالى خلال قرن تقريبًا، أما أمريكا فقد كان نصف قرن، وفيتنام فعلت ذلك فى أقل من خمس سنوات. التكنولوجيا فى ذلك تقوم بدور كبير، وتراكمها بدأ فى أوروبا مع ثورة العقل، وبعدها ثورات الصناعة، التى بدأت بالأولى ولن تنتهى بالرابعة. ولكن هذا وذاك ليس كل المسألة إذا لم يكن هناك إدراك للتغيير وحسن استخدامه وتشغيله لصالح النهوض.
الأزمات واجهتها مصر بنجاح بطولى منذ انتهاء عهد الثورات حتى الآن من الإرهاب إلى الكورونا إلى الحرب الروسية الأوكرانية، والآن مع حرب غزة الخامسة؛ وذلك لم يكن إلا نتيجة عمل ستة ملايين شاب قادوا مسيرة التعمير والبنية الأساسية ومضاعفة المعمور المصرى. استكمال ذلك لن يقل بطولة، فهناك مَن يريد الراحة، ونحن فى أول الطريق، ومَن يريد تغيير الأولويات، دون معرفة الأولويات الجديدة، ومَن يظن أن التقدم لا فائدة فيه لأن هناك قوى فى الغيب لن تجعلنا نصل إلى نهاية السباق. والحقيقة هى أنه لا توجد للسباق نهاية، وكان ذلك ما أدركه «مودى» فى الهند عندما عرف أن الصين استمرت فى العمل وإتاحة السوق حتى جاءتها كبرى الشركات العالمية تطلب الاستثمار والإنتاج؛ فكان لابد من أن يستخدم قلة التكلفة الهندية لكى يدخل السباق، وخلال عقد تقريبًا بات السؤال فى العالم: متى تلحق الهند بأمريكا؟، بعد أن كان التساؤل: متى تفعل ذلك الصين؟. فك عقدة الهند من الغرب والاستعمار كان بمثابة الانتقال إلى عصر جديد، وكذلك الحال مع فك عقدة الصين، وبات السؤال: ماذا سوف تفعل الهند سوى مضاعفة إنتاجيتها وسرعتها؟، وربما تكون الهند بلدًا قاريًّا، والآن بات لديه من السكان ما يفوق الصين، ولكن هذه الأخيرة عرفت كيف تستفيد من ديموغرافيتها وجغرافيتها. أصبح ذلك من المعتاد الحميد، وسوف نجده فى تجارب أخرى من كوريا الجنوبية إلى فيتنام؛ وفى جوارنا توجد تجارب دول سادتها المحافظة والتعصب، ولم يكن أحد يعتقد أن التغيير ممكن، فإذا بها تناطح قوى فى السباق الإقليمى وتنحو إلى مكانة أكبر فى العالم. مصر ليست بعيدة عن ذلك، ولديها ما تضيفه إلى بناء سابق بتشغيل أكثر كثافة، ولديها ما تتوسع فيه إلى مستويات أعلى وأرقى، وفى إمكانها أن تعبئ عقولًا وقلوبًا وسواعد فى مجالات جديدة لا يوجد أحد آخر لديه مثيل لها.