بقلم - عبد المنعم سعيد
«الأزمات الدولية» فصل مهم من فصول دراسة العلاقات بين الأمم؛ فالثابت أن حالة العلاقات لا تنقسم بين حالة السلام وحالة الحرب، وإنما هى أحوال من الحميمية والتعاون فى ناحية، والتوتر والأزمات فى ناحية أخرى. وعندما تكون الأزمة واقعة بين دول عظمى، فإن الأزمة لا تصير مهددة لدول، وإنما تهدد كوكب الأرض. السلاح النووى خلق لحظة فارقة فى تاريخ الحروب العالمية عامة، والحرب بين القوى العظمى بصورة خاصة. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تعددت هذه الأزمات مثل أزمتى برلين فى عامى ١٩٤٨ و١٩٥٨، اللتين قامتا على الأوضاع المعوجة لنهاية الحرب العالمية الثانية عندما أصبحت العاصمة الألمانية برلين والواقعة فى دولة ألمانيا الشرقية مقسمة بين الحلفاء المنتصرين فى الحرب. فى الحالتين كانت روسيا تعتبر برلين أسيرة يمكن استخدام حصارها فى الضغط على الحلفاء الغربيين؛ فيما كان فك الحصار من خلال جسر جوى بين ألمانيا الغربية ودول التحالف الغربى كافيا لاستعادة خطوط الاتصال والانتقال بين الغرب كله وبرلين. أزمة الصواريخ الكوبية ١٩٦١ ربما كانت الأكثر خطرا لأنه جرى فيها وضع صواريخ نووية روسية على الأرض الكوبية التى تبعد ٩٠ ميلا عن فلوريدا الأمريكية؛ ومن بعدها جرى حصار كوبا ومعها إعلان حالة التعبئة النووية، وكانت النتيجة هى موافقة روسيا على سحب صواريخها من كوبا، وفى المقابل قبلت أمريكا أن تسحب بعضا من صواريخها فى تركيا على أساس أنها تعدت عمرها الافتراضى. لم تتكرر حالة إعلان التعبئة النووية مرة أخرى إلا فى «أزمة الشرق الأوسط» فى أكتوبر ١٩٧٣؛ ولكن ما تكرر كان الكثير من التوترات السياسية والمنافسات الاقتصادية والسباق على النفوذ فى عالم تغير كثيرا خلال العقود الأخيرة.
الأزمة الدولية فى العادة تمر عبر ثلاث مراحل كبيرة أولها مرحلة البداية والتى عندها يتحول الخلاف بين دول إلى تناقض، والتناقض إلى اشتباك حول وجود معضلة جوهرية، وهى مرحلة فى العادة تحتوى على كثير من خطب تعريف كل ما سبق فى واقع من المصالح «الحيوية» لكل دولة على حدة. هى مرحلة كسب الحلفاء وتحديد الخصوم وإظهار عدالة الموقف. هى اللحظة التى تحدث فيها الغرب بقيادة واشنطن كثيرا عن حق كل الأمم فى اختيار حلفائها، وترجمة ذلك أن هناك حقا مقدسا لأوكرانيا أن تلحق بحلف الأطلنطى. وفى المقابل جرى الكثير من الخطب والتصريحات التى ألقت بها القيادة الروسية بأن وجود حلف الأطلنطى فى أوكرانيا هو تهديد مباشر للأمن القومى الروسى، وأن مثل ذلك استمرار لسلسلة من التهديدات الغربية منذ انتهاء الحرب الباردة. المرحلة الثانية من الأزمة هى التصعيد وتبدأ فى اللحظة التى يتم فيها استخدام أدوات عسكرية صريحة، وفى هذه قامت روسيا بعمليات حشد عسكرى أخذ شكل مناورات عسكرية قرب الحدود الأوكرانية، قابلها تقديم الغرب لمساعدات عسكرية لأوكرانيا وإرسال الولايات المتحدة قوات إلى أوروبا وإعلان استعدادها لفرض عقوبات اقتصادية على روسيا. استمر التصعيد عندما بدأت روسيا مناورات عسكرية فى شمال أوكرانيا بالمشاركة مع بيلاروسيا؛ وقيام مجلس الدوما (البرلمان) الروسى بإعلان تأييده للحركات الانفصالية الأوكرانية. فى المقابل فإن الجانب الأمريكى الغربى أعلن قرب لحظة الحرب، بل وحدد موعدا لها يوم الأربعاء ١٦ فبراير، وكان الهدف من تعريف الحالة بقرب ساعة الحرب وضع روسيا الاقتصادى؛ بحيث نتج عنه انخفاض ملحوظ فى سعر الروبل. إظهار وحدة الغرب فى المواجهة مع روسيا جرى من خلال تصريحات وتحركات عسكرية وزيارات مباشرة لموسكو تؤكد أن غزو أوكرانيا سوف يعنى المواجهة التى سوف تنزف فيها روسيا لفترة طويلة قادمة.
المرحلة الثالثة فى أى أزمة هى أن تذهب إلى واحد من اتجاهين: الحرب أو المواجهة العسكرية فى ناحية، أو التهدئة وخلق آلية دبلوماسية لحل الأزمة فى ناحية أخرى. وقد بدأت التهدئة بالفعل عندما تسربت أنباء- حقيقية أو غير حقيقية- عن خفض القوات العسكرية فى المناورات الروسية. وفى الغرب ذاع الحديث عن ضرورة حل الأزمة لصالح الجميع، وأكثر من ذلك تسرب من اجتماعات فيينا بصدد الاتفاق النووى مع إيران أنها على وشك التوقيع، وهو أمر جرى بجهود روسية وصينية. الحكمة هنا، إذا كان الاتفاق وشيكا بين أمريكا وإيران فلماذا لا يكون أيضا بين واشنطن وموسكو؟. وفى خطاب مقصود قال الرئيس بايدن إن الشعب الأمريكى أخ للشعب الروسى، لم تكن روسيا فى هذه الحالة هى التى تهدد أوكرانيا، وإنما شخص فلاديمير بوتين الذى سوف يجرى معه التفاهم بأن تكون أوكرانيا فنلندا أخرى. لماذا فنلندا؟.. هذه قصة أخرى!.