بقلم - عبد المنعم سعيد
يبدو لى أحيانًا أنه ينطبق علينا ذلك المثل المصرى أن ذلك الشخص الذي يخاف من لسعة سخونة «الشوربة» فإنه ينفخ في «الزبادى» البارد خوفًا من أن يكون ساخنًا هو الآخر. الخلط بين السخونة والبرودة ذائع في بلادنا، خاصة بين النخبة السياسية في البلاد، والتى هي أكبر من متخذى القرار، وممثلى الأمة في المجالس التشريعية، فهى متسعة للأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية، والمؤيدين للحكومة والمعارضين لها بوجه عام. الآن دخلت علينا جماعات كثيرة قادمة من أجواء افتراضية تكفى كلمة هنا أو هناك لكى تلسعها مادامت الكلمة لها سوابق غير سعيدة للشخصية المتحمسة للدفاع عن شرف الأمة وعفتها، اللذين لم تعد لهما علاقة بالحداثة ولا بالتقدم ولا بالسباق العالمى بين الأمم ولا تجارب الدول المختلفة وما الذي قاد دولًا لكى تتصدر شعوب الأرض وما تلك الدول التي تدخل في دوائر الكوارث الأهلية والمجاعات الدورية، ويدور أولادها بين الموانئ العالمية بحثًا عن مرفأ يقيها قيعان البحر. في سوابق التاريخ قيل عن «هملر»، وزير الدعاية الألمانى لهتلر، أو «جورنج»، رئيس الطيران النازى، أن أيًّا منهما قال إنه عندما يسمع كلمة «الثقافة» فإنه يبحث عن مسدسه. في مصر، فإن كثيرين تلسعهم كلمات مثل «الخصخصة» أو «التطبيع» أو «الأسهم» أو «البورصة» أو «القطاع الخاص» أو «البيع» أو «الاستغلال التجارى» أو «الاستحواذ» أو «الدمج»، وتجد حالات من الضجيج والتنويه والتلميح بأن أمرًا جللًا يحدث، وربما يقع في الخفاء الذي يخفى فيه الإنسان ذنوبًا ومعاصى؛ وتقابلها فورًا حالة من الاعتذارية الحكومية، التي تقرر أن ما ورد في ذهن صاحبنا ليس هو الذي تسعى إليه دولتنا الرشيدة. مثل هذه الحالات تحدث بصورة دورية، وكان آخرها الحديث عن قناة السويس ومحاولة الدولة تعظيم الفائدة منها عن طريق إنشاء صندوق خاص بالأنشطة الاقتصادية للقناة غير المتعلقة بالملاحة في المجرى المائى، ويصدق عليه ما يصدق على هذه النوعية من الصناديق في العالم.
هنا خطرت ببالى العودة إلى قرار الرئيس جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس، ووجدت من الضرورى أن يُطرح الموضوع في أصوله على النقاش العام.
باسم الأمة..
رئيس الجمهورية..
مادة 1: تؤمَّم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية، وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات، وتُحل جميع الهيئات واللجان القائمة حاليًا على إدارتها، ويُعوض المساهمون وحمَلة حصص التأسيس عما يملكونه من أسهم وحصص بقيمتها، مُقدَّرة بحسب سعر الإقفال السابق على تاريخ العمل بهذا القانون في بورصة الأوراق المالية بباريس، ويتم دفع هذا التعويض بعد إتمام استلام الدولة لجميع أموال وممتلكات الشركة المؤمَّمة.
مادة 2: يتولى إدارة مرفق المرور بقناة السويس مرفق عام مِلْك للدولة.. يتولى إدارة مرفق المرور بقناة السويس هيئة مستقلة تكون لها الشخصية الاعتبارية، وتُلحق بوزارة التجارة، ويصدر بتشكيل هذه الهيئة قرار من رئيس الجمهورية، ويكون لها- في سبيل إدارة المرفق- جميع السلطات اللازمة لهذا الغرض دون التقيد بالنظم والأوضاع الحكومية. ومع عدم الإخلال برقابة ديوان المحاسبة على الحساب الختامى، تكون للهيئة ميزانية مستقلة، تتبع في وضعها القواعد المعمول بها في المشروعات التجارية، وتبدأ السنة المالية في أول يوليو وتنتهى في آخر يونيو من كل عام، وتُعتمد الميزانية والحساب الختامى بقرار من رئيس الجمهورية، وتبدأ السنة المالية الأولى من تاريخ العمل بهذا القانون، وتنتهى في آخر يونيو سنة ١٩٥٧، ويجوز للهيئة أن تندب من بين أعضائها واحدًا أو أكثر لتنفيذ قراراتها أو للقيام بما يُعهد إليه من أعمال، كما يجوز لها أن تؤلف من بين أعضائها أو من غيرهم لجانًا فنية للاستعانة بها في البحوث والدراسات.. يمثل الهيئة رئيسها أمام الهيئات القضائية والحكومية وغيرها، وينوب عنها في معاملتها مع الغير.
هكذا كان أمر قناة السويس في أصوله الأولى، التي نجمت عن لحظة مجيدة في التاريخ المصرى انتقلت فيه «شركة مساهمة» يمتلك أصولها وأسهمها أجانب، ومُقدَّرة قيمة أسهمها وحصصها يوميًّا وفق ما تقول به «بورصة الأوراق المالية في باريس»؛ إلى أن تكون «شركة مساهمة» مصرية تمثلها «هيئة مستقلة تكون لها الشخصية الاعتبارية، وتُلحق بوزارة التجارة» كما كان الحال وقتها بالنسبة للشركات التي تمتلكها الدولة بمعنى أنها تمتلك أسهمها وأصولها، التي كانت واقعة في ذلك الوقت ضمن النظام الاقتصادى الذي كانت مصر تعيش فيه. وفيما أعلم، فإن أسهم القناة لم تُطرح في البورصة المصرية، وتناوبت عليها أوضاع اقتصادية متنوعة حسب العهد. والمؤكد أن السنوات الأخيرة تشهد منذ إنشاء «قناة السويس الجديدة» خلال عام واحد درجة أعلى من التعقيد بفعل ما جرى من التنمية العمرانية التي جرَت على ضفتى القناة، والتى كانت بداياتها من قبل من خلال «المنطقة الاقتصادية الخاصة بشمال غرب السويس»، ثم بعدها بعد إنشاء الهيئة العامة لتنمية المنطقة الاقتصادية لقناة السويس لتتولى إدارة وتنفيذ محور قناة السويس. والحقيقة أن أيًّا من هذا وذاك لا ينفى مشروعات أخرى ممتدة من القناة إلى داخل سيناء وشرق بورسعيد.
النقاش الذي جرى مؤخرًا في مجلس النواب لم يكن مستوعبًا للفوارق المختلفة المتعلقة بهذه التركيبة الجديدة من المشروعات، التي لا تتوقف عن التوسع والانتشار، والتى كثيرًا ما تختلط هي ذاتها بتلك الشركة المساهمة المصرية، التي ارتبطت بأحداث مهمة في التاريخ المصرى الحديث، فالحقيقة أيضًا أن قناة السويس ذاتها بمعنى المجرى الملاحى لم تتوقف عن التطور والتغيير، بعد أن تغير «المفهوم»، الذي تقوم عليه من تنظيم يحصل على أجر مرور السفن، وهذه تُقدر بالحمولة؛ إلى مفهوم آخر بدأ مع حفر القناة الجديدة، التي ترتب عليها أولًا فوز مصر في سباق المنافسة مع البدائل الأخرى التي قدمتها دول كبيرة وصغيرة. التجربة ذاتها ثانيًا سمحت أكثر من ذلك باكتساب مهارات حديثة ومعاصرة للتكريك والحفر والتطوير، وفوق ذلك خلْق سلسلة كبيرة من الخدمات اللوجستية والتوسعات البحرية في حركة الملاحة والتجارة في الموانئ الملحقة بالقناة. وباختصار، باتت لدى القناة خبرات جديدة في الإنقاذ والنقل والتعامل مع شركات عالمية تتعامل مع الشرق والغرب. تحويل كل ذلك إلى شركة أو شركات «مساهمة» أو صناديق للاستثمار ليس بيعًا للقناة، وإنما هو تعظيم للمكاسب، التي باتت تتعدى أجور العبور إلى تقديم خدمات وخبرات ترتبط دائمًا بالموانئ والممرات الناضجة في العالم مثل تلك الواقعة في سنغافورة ودبى.
ما ينقصنا ربما هو أن الاستراتيجية التي تربط كل هذه العناصر ليست واضحة بالشكل الكافى للجمهور العام. وهناك واجب إضافى سوف يقع على عاتق «الحوار الوطنى» المنتظر في التخلص من لسعة كلمات بعينها، فالسؤال الأهم من ذلك كله هو: هل نريد لمصر أن تكون دولة متقدمة وعظيمة أم لا؟.