فى حياة البشر معجزات فردية يخص بها الخالق سبحانه بعض الناس.. ليس من الضرورى أن يكونوا أنبياء أو رسلا ، ولكن الأقدار تمنحهم حظًَا أكبر من التأثير والدور والمهابة.. هذه المكانة تجسدت فى اثنين من قمم الإبداع فى الثقافة العربية، وهما طه حسين وعباس محمود العقاد.
ـــــ طه حسين، الرجل الذى حُرم من نعمة البصر ، أصبح عميد الأدب العربي، يرى بعيون الملايين.. أما عباس محمود العقاد، الرجل الذى لم يُكمل تعليمه، فقد أصبح موسوعيًا فى كل شيء، حتى رفض درجة الدكتوراه عندما منحتها له جامعة القاهرة.. إنه العملاق عباس العقاد.
ـــــ قلت إن الأقدار تصنع أحيانًا زلازل بشرية تغيّر سكون الأرض واستسلام العقول.. كان العقاد ظاهرة موسوعية ، حلق فى كل جوانب الفكر والإبداع.. اقترب كثيرًا من الفلسفة وناقش أعقد القضايا فيها، حتى وصل إلى الخالق سبحانه وتعالى فى كتابه الأشهر «الله»، وسافر فى آفاق النبوة حين كتب عن محمد والمسيح عليهما السلام.. كما قدم متعة الفكر والتحليل فى سلسلة العبقريات عن عمر، وعلي، وعثمان، أصحاب المصطفى، وكيف كانوا نماذج رفيعة فى القدوة والأخلاق والتحضر..
ـــــ جنح العقاد إلى مملكة الشعر، وقدم عشرة دواوين من الشعر الراقى الرصين، وأنشأ مدرسة الديوان ليقدم من خلالها صورة الشعر كما رآه.. دخل فى معركة دامية مع أمير الشعراء أحمد شوقى، وكان ضاريًا فى هجومه على شعره.. اختلف كثيرًا مع طه حسين، وكان سبب الخلاف بينهما قضية الانتماء الثقافي؛ حيث كان طه حسين مبهورًا بثقافة الغرب، بينما كان العقاد عروبى الفكر والثقافة..
حين سُئل العقاد عن أى الألقاب يُفضِّل، قال: «الشعر هو أرقى مراتب الإبداع»، واستشهد ببيته الشهير:
«والشِّعرُ مِن نفسِ الرحمنِ مَنبَعُهُ
والشاعرُ الفذُّ بينَ الناسِ رحمنُ»
ـــــ دخل العقاد السجن، وكان عضوًا فى البرلمان، بتهمة العيب فى الذات الملكية، عندما قال تحت قبة البرلمان إن هذا الشعب قادر على الإطاحة بأكبر رأس فيه.. مارس السياسة وأحب زعيم الأمة سعد زغلول، وكان الكاتب المفضل لديه.. أطلق عليه لقب «الكاتب الجبار»، وكان كاتب الوفد الأكبر.. حين قامت ثورة يوليو، حاولت استقطاب كبار كتاب مصر، خاصة الثلاثى الأشهر: عباس العقاد، طه حسين، وتوفيق الحكيم.. عندما كتب جمال عبد الناصر فلسفة الثورة.. كتب العقاد مقدمة الكتاب.. لكن قضايا خلافية برزت بين الثورة والعقاد، أبرزها قضية الحرية التى لم يفرط فيها، وهو أحد أبناء ثورة 1919 وزعيمها سعد زغلول..
ـــــ وكان هناك جانب آخر وقف بين العقاد والثورة، كان كبرياؤه وشموخه الذى جعله يعيش حياته من قلمه يكتب فى الصحف والمجلات وقد حكى لى أنيس منصور والرواية عنه أن العقاد فى آخر أيامه اضطر لبيع جزء من مكتبته حتى يواجه ظروف الحياة وأنه ذهب لمصطفى أمين وحكى له القصة وأخذ 200 جنيه تحت حساب مقالات العقاد فى أخبار اليوم وكان يتقاضى خمسين جنيها عن كل مقال ورفض العقاد أن يتسلم المبلغ وقال لأنيس سوف أحصل فقط على كل مقالة أنشرها.. كان العقاد يتسلم جائزة الدولة التقديرية من جمال عبدالناصر وقال: «إن الدولة التى تُكرم النابغين من أبنائها هى فى الحقيقة تُكرم نفسها». ويبدو أن عبد الناصر غضب يومها من كلمة العقاد..
ـــــ كانت بعض مواقف العقاد السياسية محسوبة عليه، ولهذا تفرغ لكتاباته الفلسفية والفكرية، وكان منها كتابه الممتع فى بيتى ثم أنا وهي، اعترافات ذاتية كشف فيها مواقف كثيرة فى حياته... لم يعترف العقاد بفن القصة والرواية، ولم يكن يرى فيه إبداعًا، رغم أنه كتب رواية واحدة هى سارة، التى تحكى قصة حبه لفنانة شهيرة.. قال لى الفنان صلاح طاهر إن العقاد طلب منه أن يرسم لوحة فيها تورتة جميلة وعليها ذبابة، وعلقها فى غرفة نومه.
قصة العقاد مع الكاتبة اللبنانية مى زيادة أحاطها الغموض، ولم يتحدث عنها كثيرًا، وقد كتب العقاد رثاءً شهيرًا فيها بعنوان «أين فى المحفل مى يا صحاب» حين رحلت مى زيادة وغابت عن صالونها الذى كان يجمع قمم الفكر والإبداع فى عصرها، وقد حيرت مى الناس بين حب جبران والعقاد.. وإن كان هذا النوع من الحب صفحة جميلة من الذكريات
أَيْنَ فِى المحفِل «مَيّ» يا صِحَاب؟
عَوّدَتَنَا هَا هُنَا فَصْلَ الْخِطابِ
عَرْشُهَا الْمِنْبَرُ مَرْفُوع الْجَنَابِ
مُسْتَجِيب حِينَ يُدْعَى مُسْتَجَابُ
أَيْنَ فِى المحفِل «مَيّ « يا صِحَاب؟
سَائِلُوا النّخبةَ مِنْ رَهْط النَّدَى
أَيْنَ مي؟ هَلْ عَلِمْتُم أَيْنَ مي؟
الْحَديثُ الْحلْوُ وَاللَّحْنُ الشَّجي
الْجَبِينُ الْحُرِّ وَالْوَجْهِ السَّنى
أَيْنَ وَلَّى كَوْكَبَاهُ؟ أَيْنَ غَابٍ؟!
شِيَمُ غُرْ رَضِيَّاتُ عَذَابِ
وحجى يَنْفُذُ بالرأى الصَّوَابَ
وَذُكَاء أَلمعِىُّ كَالْشِّهَابِ
وَجِمَالُ قدسيُّ لَا يُعَابُ
كُلُّ هَذَا فى التُّرَابَ؟ آه مِنْ هَذَا التُّرَابَ
ـــــ كان الخلاف حول شعر العقاد كبيرًا؛ هناك من رأى فيه إبداعًا اتسم بالفكر والعمق والرؤية، وهناك من تحفظ عليه وإن كان العقاد قد رفض قصيدة النثر، وكان يسميها «الشعر السائب». وعندما كان عضوًا فى مجمع اللغة العربية، كان يحيل هذه القصائد إلى لجنة النثر، ولم يعترف بحركة الشعر الحديث أو بفن الرواية كإبداع..
ـــــ إذا جاز لنا اختيار كاتب عربى موسوعي، فهو بلا شك كاتبنا ومفكرنا الكبير عباس محمود العقاد ، الذى جمع الفكر والشعر والنقد والتاريخ واليقين فى مسيرة واحدة.. كان رمزًا من رموز الأصالة، وفارسًا من فرسان الحرية ، وقامة شامخة فى تاريخ الثقافة العربية.. كان كبرياء العقاد واعتزازه بنفسه عبئًا ثقيلًا عليه، فلم يحنِ رأسه لصاحب قرار، ودفع الثمن سجنًا وإهمالًا، وبقى على موقفه لم يتراجع. وهو الذى كبر فى رحاب ثورة ورعاية زعيم، لم يهتم العقاد بعد ذلك بشيء، فلم يسعَ إلى منصب، ولم يكن بوقًا لأحد.. إنه العقاد الذى يعرف قدر نفسه كبرياءً وقيمةً..
يبقى العقاد قمة من قمم مصر المُبدعة والخالدة، وهو يحمل سمات زمنٍ وحضارةٍ وتاريخٍ كانت مصر فيه قلعةً للإبداع والنهضة والتفرد، وقدمت ثقافةً أضاءت بها عقول الملايين فى كل مجالات الحياة.
..ويبقى الشعر
فـى أى شئ أمام الله قد عدلوا؟
تاريخنا القتل.. والإرهاب.. والدَّجلُ
مـن ألفِ عامٍ أرى الجلاد يتبعُنا
فى موكب القهر ضاع الحُلمُ.. والأجلُ
نـبكى على أمةٍ ماتت عزائِمها
وفوق أشلائها.. تَساقَطُ العللُ
هَل يَنفَعُ الدَّمعُ بعد اليومِ فى وطنٍ
مِن حُرقةِ الدمعِ ما عادت له مقلُ
فى جُرحِنا الملحُ هل يَشفى لنا بدنٌ
وكيف بالملح جرح المرء يندملُ
أرض توارت وأمجاد لنا اندثرت
وأنجمٌ عن سماء العمرِ ترتحلُ
ما زالَ فى القلبِ يَدمى جُرحُ قُرطبةٍ
ومسجدٌ فى كهوفِ الصمتِ يبتهلُ
فكم بكينا على أطلال قُرطبةٍ
وَقُدسُنا لم تزل فى العار تغتسلُ
فى القُدسِ تبكى أمامَ الله مِئذَنةٌ
ونهر دمعٍ على المحرابِ ينهمِل
وكعبةٌ تشتكى لله غربتهـــا
وتنزف الدمع فى أعتاب من رحلوا
كانوا رِجالاً وكانوا للورى قبساً
وجذوةً من ضمير الحقِّ.. تشتعِلُ
لم يبقَ شيءٌ لنا من بعدِ ما غربت
شمس الرجال.. تساوى اللصُّ والبطلُ
لم يبقَ شيءٌ لنا من بعدِ ما سقطت
كل القلاع.. تساوى السَّفحُ والجبلُ
فى ساحةَ الملك أصنامٌ مزركشة ٌ
عِصابةٌ مِن رمادِ الصُّبحِ تكتحـلُ
وأُمةٌ فى ضَلالِ القَهرِ قد ركعت
مَحنيةَ الرأسِ للسَّيافِ تمتثِــــلُ
فى كلٍََِّ يومٍ لنا جُرحٌ يُطـــــاردنا
وقصةٌ من مآسى الدَّهرِ تكتمِـــلُ
من ذا يصدق أن الصُّبحَ موعدنا
وكيف يأتى وقد ضاقت بنا السبل؟
قد كان أولى بِنا صُبــحٌ يعانِقـــــــُنا
ويحتوى أرضَنا لو أنهم ..عدلــوا
عُمرى هُمـومٌ وأحلامٌ لنا سقطـت
أصابها اليأسُ.. والإعياءُ.. والمللُ
يا أيها العمر رِفقــا كَان لى أمــــــلٌ
أن يبرأ الجرح.. لكن خاننى الأملُ
ففى خيالى شُمــوخٌ عِشتُ أنشده
صَرحٌ تَغَنَّت بِهِ أمجادُنا الأولُ
لكنَّه العار يأبـى أن يفارِقنا
ويمتطى ظهرَنا أيان نرتحـلُ
يا أيُّها الجُرحُ نارٌ أنت فى جســدي
وجُرحُنا العار ُكيف العارَ نحتمِـلُ؟
قالـوا لنا أرضُنا أرضٌ مباركة ٌ
فيها الهُدى.. والتقى والوَحيُ والرُّسلُ
ما لى أراها وبحر الدَّم يغـرقـُهـا
وطالعُ الحَظ َّ فى أرجائها.. زُحَلُ ؟
لم يبرَحِ الدَّمٌ فى يـومٍ مشانِقَهـا
حتى المشانقُ قد ضاقت بِمَن قــُتِلوا
يا لَعنَةَ الدَّم من يوما يُطَهِّرهــا؟
فالغدرُ فى أهلهـــا دِيـنٌ لَهُ مِللُ
فى أى شيءٍ أمــــــــــام الله قد عدلوا؟
وكــُلهم كاذِبٌ.. قالــــوا وما فعَلـوا
هذا جبـانٌ وهذا باعَ أمتـهُ
وكلهم فى حِمى الشيطان يبتهـلُ
مِن يومِ أن مزَّقوا أعـراض أُمَتهم
وثوبُها الخِزي.. والبُهتان.. والزلـَلُ
عَارٌ على الأرضِ كيف الرِّجسُ ضاجعها
كيف استوى عندها العِنِّينُ.. والرَّجُلُ؟
يا وصمةَ العار هٌزِّى جِذعَ نخلتِنا
يَسَّاقط ُ القَهرُ والإرهاب.. والدَجـَلُ
ضاعت شُعُـوبٌ وزالت قبلـَنا دُوَلٌ
وعُصبة ُالظـُّلمِ لن تعـْلــُو بِها دُوَلُ
أَيْنَ فِى المحفِل «مَيّ» يا صِحَاب؟
عَوّدَتَنَا هَا هُنَا فَصْلَ الْخِطابِ
عَرْشُهَا الْمِنْبَرُ مَرْفُوع الْجَنَابِ
مُسْتَجِيب حِينَ يُدْعَى مُسْتَجَابُ
أَيْنَ فِى المحفِل «مَيّ « يا صِحَاب؟
سَائِلُوا النّخبةَ مِنْ رَهْط النَّدَى
أَيْنَ مي؟ هَلْ عَلِمْتُم أَيْنَ مي؟
الْحَديثُ الْحلْوُ وَاللَّحْنُ الشَّجي
الْجَبِينُ الْحُرِّ وَالْوَجْهِ السَّنى
أَيْنَ وَلَّى كَوْكَبَاهُ؟ أَيْنَ غَابٍ؟!
شِيَمُ غُرْ رَضِيَّاتُ عَذَابِ
وحجى يَنْفُذُ بالرأى الصَّوَابَ
وَذُكَاء أَلمعِىُّ كَالْشِّهَابِ
وَجِمَالُ قدسيُّ لَا يُعَابُ
كُلُّ هَذَا فى التُّرَابَ؟ آه مِنْ هَذَا التُّرَابَ
-----------
قصيدة «مرثية ما قبل الغروب» سنة 1997