لا شك أن حالة الفوضى التى تجتاح الآن بعض المجتمعات العربية شعوبًا وحكومات، بما فى ذلك النخبة ، تتطلب مراجعة حتى لا تسوء الأحوال أكثر من هذا.. نحن أمام تهديدات خارجية تهدد الوجود العربى وتعيد إلى الأذهان عصورًا من الاستسلام والتبعية.. كنا نطلق عليها أسماء كثيرة ما بين الاحتلال والاستعمار، ويبدو أنه عاد مرة أخرى حتى لو تغيرت أساليبه.
ـــــــ على جانب آخر، فإن الأمن القومى العربى وصل إلى حالة من الفوضى والتفكك، بحيث غابت تمامًا كل ما تعارفت عليه شعوب المنطقة من اتفاقيات الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى والأمنى والسياسي.. وأصبحنا أمام واقع جديد من حالات التشرذم والانقسامات التى وصلت إلى الحروب الأهلية بين أبناء الشعب الواحد، وأصبحت الصراعات الداخلية من أخطر سمات الواقع العربي، حيث أصبحت لغة المعارك بديلًا عن الحوار وافتقدت ما يجمع الشعوب من لغة التواصل والتعاون بين أبناء الشعب الواحد.
ـــــــ على جانب آخر، فقد غابت تمامًا روح التعاون فى كل مجالات الحياة، وأصبحت كل الأشياء حقًا مستباحة لمن يملك المال والقوة.. وكانت نتيجة ذلك حالة التفكك والفوضى التى اجتاحت القرار العربي، وتحول الكيان الأضخم إلى جزر متناحرة، وانقسم العالم العربى على نفسه ما بين المغرب العربى والمشرق العربى ودول الخليج، وغابت تمامًا مشاعر كنا نسميها الوحدة العربية أو وحدة الهدف والمصير.. أمام هذه الفوضى أصبح من السهل اختراق هذا الكيان التاريخى العريق وبدأ الاستعمار القديم يغيّر وسائله ما بين اجتياح الفكر والثوابت حتى وصل إلى العقائد والأديان، ثم عاد مرة أخرى إلى أساليبه القديمة، بما فى ذلك وضع خطط جديدة للنفوذ والوصاية ، حتى احتلال الأرض.
ـــــــ كان ينبغى أن نقرأ الأحداث وهى تتلاحق أمامنا ما بين دعوات للعولمة تهدف إلى ضرب الثوابت وتشويه مقدرات الشعوب تحت دعاوى وشعارات كثيرة.. وحين اكتشفت الشعوب أن العولمة ستار لمشروع أكبر، انطلقت دعوات لنشر أفكار وسلوكيات مشوهة عن الجنس الثالث وتحرير العلاقات الأسرية.. وجاء الدور على العقائد الدينية، وسخرت أقلام وأدوات لنشر الإلحاد بين الشباب؛ وهنا كانت الدعوة لتوحيد الأديان فيما سُمّى الدين الإبراهيمى الجديد، ووجدنا مؤسسات ودولا تنفق الملايين لنشر هذا الدين الجديد.. هذا التسلسل فى مشروع الوصاية بدأ دينيًا وفكريًا وسلوكيًا، ولم يكتفِ بذلك، ولكنه تحول إلى مواجهة دينية بين عالم الشر وعالم التقدم.. وكانت إسرائيل هى الأداة التى استخدمها الغرب لكى تخوض أكبر معاركها مع الشعب الفلسطيني، على أساس أن المقاومة هى محور الشر، وأنها محور التقدم والحريات.
ـــــــ كل هذه الشواهد كانت ترسم صورة عالم جديد ودين جديد وأخلاقيات جديدة، وكان لهذه الشواهد توابع كثيرة؛ فقد دفع الغرب ملايين الدولارات لتمويل الجماعات والأفكار الإرهابية، ودفع بجيوشه وقواته تحت شعار محاربة الإرهاب.. وكان من توابع ذلك ظهور القاعدة و«داعش» والتجمعات الإرهابية التى قامت على أفكار غريبة وشاذة وتتعارض مع ثوابت الأديان الحقيقية.
ـــــــ حين انطلقت الحرب فى غزة، نجحت إسرائيل فى بدايتها أن تقنع البعض بأنها حرب دينية ضد محور الشر، وأنها تمهيد لنشر الدين الإبراهيمى الجديد، وأن القضاء على المقاومة تمامًا هو الحل.. وقد نجحت إسرائيل فى بداية حرب غزة أن تقنع العالم بأنها حرب ضد الإرهاب الإسلامي، وللمرة الأولى تقف أمريكا مع الجيش الإسرائيلى فى أطول معاركها منذ إنشاء إسرائيل.. وسط هذا الدمار، انقسمت الدول العربية وبدأت قضية العرب الأولى تتراجع، بل إن الشعب الفلسطينى انقسم على نفسه، وفى أحيان كثيرة وصلت الانقسامات إلى درجة الخيانة، وانسحبت شعوب العالم العربى وأخذت مواقف لا تتناسب مع خطورة اللحظة، خاصة بعد أن دمرت الحرب قطاع غزة بالكامل وسقط آلاف الشهداء بين الأطفال والنساء.. لم تقنع إسرائيل بدمار غزة، لكنها مدت عدوانها إلى لبنان، ثم إلى سوريا، ودخلت اليمن وهى الآن تنهى فصول الرواية فى الضفة الغربية.. ووجدنا العالم العربى بدوله وشعوبه وحكوماته يدخل نفقًا مظلمًا وصل إلى مشروع غريب بإنهاء القضية الفلسطينية واحتلال أمريكى لغزة وتهجير ثلاثة ملايين مواطن فلسطيني. وكان مقترح الرئيس ترامب تحويل غزة إلى منتجع عالمى يشبه الريفيرا وتهجير الشعب الفلسطينى إلى سيناء والأردن أو المغرب والصومال، بحيث تجد الشعوب العربية نفسها أرضًا محتلة تحت الوصاية الأمريكية.
ـــــــ نحن الآن أمام مشروع كبير تجاوز خلافات الفكر والأديان والعولمة ، وعُدنا إلى عصور الاحتلال التقليدي، من حيث السيطرة على الأرض والبشر والموارد.. وليس هناك ما يمنع بعد ذلك أن تتقدم الجيوش إلى أرض عربية أخرى، ما دام الاحتلال أصبح حقًا مشروعًا.. إن الأشياء والمواقف تعقدت كثيرًا، خاصة أن العالم العربى يعانى ظروفًا صعبة ما بين الخلافات والانقسامات والحروب الأهلية والظروف الاقتصادية القاسية.. إن الحل يبدو صعبًا، لأن المطلوب أن تعود القضايا إلى ثوابتها وتتخلص الدول من انقساماتها وتعيد ترتيب علاقاتها مع العالم، وتضع إسرائيل خلف حدود لا تتجاوزها، ويجلس أصحاب القرار فى لحظة تاريخية فاصلة لتعديل المسار، وإنقاذ السفينة قبل أن يبتلعها الطوفان.. إن الرئيس ترامب منحاز جدا لإسرائيل، حتى وصل بالدولة العظمى إلى تهجير الشعوب.. واحتلال الأراضى، وقتل الأبرياء.. هذه الأعمال سوف تغير ثوابت كثيرة فى العالم حول حقوق الإنسان، وقدسية الأوطان, وحق الشعوب فى الحرية والكرامة..
ـــــــ إن العالم العربى لا يواجه حربا مع إسرائيل فى غزة فحسب، بل يواجه تهديدا صارخا ضد وجوده وشعوبه وحضارته وثوابته.. نحن أمام أشباح تريد أن تعيد العالم إلى عصور الهيمنة والوصاية والاحتلال.. لابد أن نفيق.. إن الشعوب العربية تتطلع إلى قمة القاهرة يوم 27 فبراير على الأقل يجتمع الشمل وتتوحد الإرادة ويشعر أصحاب القرار بالمخاطر التى تهدد وجود الأمة شعوبا وأرضا وتراثا، لأن غزة لن تكون صفقة عابرة أمام أطماع توسعية أصبحت حديث العالم كله ولا تخفى أهدافها, ويصبح وحده القرار العربى أول الطريق للمواجهة، حماية لما تبقى من وجود هذه الأمة.
***
..ويبقى الشعر
لا تَحْزَنُوا .. إِنْ جِئْتُكُمْ يَوْمًا بِوجْهٍ مُسْتَعَارْ
أخْفِى بِهِ أَطْلَالَ عُمْرٍ شَوَّهَتُهُ يَدُ الدَّمارْ
لَا تَغْضَبُوا مِنِّى إِذَا أَخْفَيْتُ إِخْفَاقِي.. وَيَأْسِى
كى أَبَشِّرَكُمْ .. بِصَيْحَاتِ النَّهَارْ
إِنِّى أَرَاهُ هُنَاكَ طُوفَانًا يُعْربدُ فِى جَوانِحِنَا
وَيَعْصِفُ فِى دِمَانَا .. لَنْ يَطُولُ الانْتِظَارْ
قَدْ لَا يَطُولُ العُمْرُ بِى
حَتَّى أراه جزيرةً خَضْراءَ تَعْلُو فَوْقَ أَمْوَاجِ البِحَارْ
قَدْ لَا يَطُولُ العُمْرُ بِى
حَتَّى أَراهُ كَبَسْمَةٍ بَيضَاءَ فِى عَيْنِ الصَّغَارْ
لَكنَّنِى سَأكُونُ أُغْنِيةً
تَطِيرُ عَلَى قِبَابِ القُدسِ تَزْهُو بِالْأَملْ
سَأَكُونَ نَارًا تَحْرِقُ الكُهَّانَ ..
والزَّمَنَ المُعِّوقَ .. والدَّجلْ
* * *
القُدسُ سَوْفَ تُحاصِرُ المَوْتَى
سَتَهْدِمُ كُلَّ جُدْرَانِ الْمَقَابِرْ
سَتَطُوفُ فَوْقَ شَوَاهِدِ الْأَحْيَاءِ
تَصْرُخُ فِى بُيُوتِ السُّوءِ...
سَوْفَ تَصِيحُ مِنْ فَوقِ المَنَابِرْ
يَتَدَفَّقُ الصَّوتُ العتيقُ
فَيُغْرِقُ الجُثًثَ القَدِيمَة .. ثُمَّ يَبْعَثُهَا
وَتَنْبُتُ مِنَ بَقَايَاهَا الخَنَاجِرْ
يَا نُوحُ .. لا تَعْبَأُ بِمَنْ خَانُوا
فَلَنْ يَنْجُو مِنَ الطُّوفَانِ غَادِرْ
* * *
القدسُ تَحْتَضِنُ الرِّجَالَ الرَّاحِلِينَ بِحُلْمِهِمْ
والجُرْحُ فِى الْأَعْمَاقِ غَائِرْ
القُدْسُ مَا زَالَتْ تُحلِّقُ فِى القُلُوبِ...
وَإِنْ بَدَتْ فِى الْأَفْقِ أَحْزَانٌ تُكَابِرْ
القُدْسُ تَصْرُحُ فِى مَآذِنِنَا :
حَرَامٌ أَنْ يَضِيعَ الحَقُّ .. يَا زَمَنَ الصَّغَائِرْ
* * *
القُدْسُ سَوْفَ تَعُودُ كَالبُرْكَانِ
تكتسح الزَّمَانَ الراكد المَوْبُوءَ ...
تُشْرِقُ فِى دُجَى اللَّيْلِ البَصَائِرْ
ستُدَاعِبُ الأَطْفَالَ بالحَلْوَى ...
وبالقصص القَدِيمَة .. والحَكَايا
سَوْفَ تَحْمِلُ فِى يَدٍ زَيْتُونَةً خَضْراءَ
تَحْمِلُ فِى الْيَدِ الْأَخْرَى .. خَنَاجِرْ
سَتُعلِّم الأَطْفَالَ نُطْقَ الحَرْفِ ...
قَتْلَ الظُّلْمِ .. وَأَدَ الخَوْفِ ..
كَيْفَ يَكُونُ صَوتُ الحَقِّ
نُورًا فِى الضَّمَائِرْ
وسَيَسْقُطُ الكُهَّانُ كالحَشَراتِ ..
فِى صَمْتِ الْمَقَابِرْ
وسيزحَفُ الْمَوْتَى جُمُوعًا بالبشائرْ
وَالقُدْسُ تَصْرُخْ خَلْفَهم ...
وَتَصِيحُ فِيهم :
لَنْ تَمُوتُوا ... لَنْ تَمُوتُوا مَرَّتَيْن