فى أحيان كثيرة نواجه فى حياتنا بعض التناقضات التى تفرضها المواقف والظروف والقناعات، والغريب أن نختلف، ويبقى بيننا شيء من الحب وكثير من التقدير..
ــــــ كان إبراهيم نافع أول إنسان رأيته فى مكتب ممدوح طه فى مبنى الأهرام القديم فى شارع مظلوم يوم التحقتُ بالأهرام .. يومها كان القرار قد صدر بأن ألتحق محررًا بالقسم الاقتصادى.. كانت كل الأقسام تحت رئاسة ممدوح طه، رئيس قسم الأخبار ــ وكان من أهم المسئولين بعد الأستاذ هيكل ــ بما فيها الشئون العربية، والقسم الاقتصادى، والدبلوماسى، والرئاسة، ومجلس الشعب.. كان هناك رباعى متميز من كبار المحررين: إبراهيم نافع، وزكريا نيل، وحمدى فؤاد، ومحمد حقى، وكانت لهم علاقات خاصة مع الأستاذ هيكل ويعتبرهم قوة الأهرام الضاربة.
ــــــ بدأت العمل فى قسم الأخبار دون تحديد مسئوليات، وكان إبراهيم نافع يتمتع برصيد كبير من العلاقات مع سلطة القرار، إذ كان صديقًا للمجموعة الاقتصادية: عبدالمنعم القيسونى، وعبدالعزيز حجازى، وحامد السايح، وحسن عباس زكي.. كانت هناك منافسة شديدة بين ثلاثة من كبار المحررين: إبراهيم نافع فى الأهرام، وسعيد سنبل فى الأخبار، ومحمد أحمد فى الجمهورية، وكانوا يتمتعون بعلاقات جيدة مع رجال الاقتصاد.
ــــــ شهدت الفترة الأولى من عملى فى الاقتصاد تقاربًا شديدًا بينى وبين إبراهيم نافع؛ كان إنسانًا مهذبًا ومجاملًا، لكن الخلافات بيننا بدأت لأن المصادر كانت واحدة، والأخبار والقضايا متشابهة.. كان يتمتع بمكانة خاصة فى الأهرام، فهو الأكبر سنًا والأطول عمرًا، وكان جيله صاحب القرار، فى حين كنت شابًا بلا رصيد، وعلاقاتى محدودة، خاصة مع أعضاء الديسك المركزى.
ــــــ لم نختلف كثيرًا فى البداية، خاصة أن الاهتمامات كانت مختلفة، ويبدو أن الخلاف فى المشروع يترك أثرًا على العلاقات بين الناس، وإن كانت علاقتنا، إبراهيم نافع وأنا، اتسمت بكثير من الود والمجاملات، رغم الحساسية الشديدة فى العمل فى الجريدة نفسها.
ــــــ كانت هذه الفترة مليئة بالأحداث والأخبار والمفاجآت على المستوى السياسى: رحيل الزعيم جمال عبدالناصر، وتولى الرئيس السادات، وتصفية مراكز القوى، والصراع على السلطة، وثورة التصحيح، وتغيير المسار الاقتصادى من الاشتراكية إلى الانفتاح، وانقسام النخبة المصرية ما بين الناصريين والساداتيين.
ــــــ كان الأستاذ هيكل مازال على رأس الأهرام حين سافر إبراهيم نافع إلى أمريكا للعمل فى البنك الدولى لمدة عامين، وكانت هذه أكبر فرصة لأن أكون بالفعل المحرر الاقتصادى للأهرام منفردًا لأول مرة.. وقد منحتنى هذه الفرصة أن أكون أقرب لسلطة القرار من كبار المسئولين، وأن أقترب أكثر من الأستاذ هيكل، وأن تتصدر تحقيقاتى وأخبارى صدر الصحيفة برعاية من صلاح هلال، رئيس قسم التحقيقات، وممدوح طه، رئيس قسم الأخبار.. كان سفر إبراهيم نافع إلى البنك الدولى وغيابه عن الأهرام أكبر فرصة أتيحت لى لكى أصبح رقمًا محسوبًا فى المحررين المعترف بهم فى الجريدة العريقة.
ـــــــ كنت فى هذه الفترة قد أكدت وجودى مع سلطة القرار، خاصة المجموعة الاقتصادية: القيسونى، وحجازى، وحسن عباس زكى، بجانب رؤساء القطاعات والشركات: محمد غانم، ومصطفى رشدى، وجمال الناظر، وحامد السايح، وشريف لطفى.. كانت عودة إبراهيم نافع من أمريكا بداية الأزمات، خاصة مع الأستاذ هيكل، فقد أغدق على إبراهيم نافع راتبا، ومكتبًا، ونفوذًا، وتجاهلني.. دخلت عليه أعاتبه، ووعدني، ولكن قرار السادات بخروجه من الأهرام كان الأسرع .. بقينا أصدقاء، إبراهيم نافع وأنا، وكان فك الاشتباك أن أودع الاقتصاد بقرار من يوسف السباعي، فقد نقلنى إلى الديسك المركزى، ورغم أنه كان ترقية فقد كنت أصغر الأعضاء سنا فيه، فإننى دخلت أعاتبه على قرار النقل، وقلت له : «كان قرارًا ظالمًا».
ــــــ عادت جسور المودة بينى وبين إبراهيم نافع بعد أن أنشأت الصفحة الثقافية للأهرام، وكانت بدايتها يومية.. بقيت فى الديسك ثلاث سنوات، وكانت كتبى وقصائدى قد بدأت تأخذ مكانها فى صفحتى الثقافية الجديدة .. وصعد إبراهيم نافع وأصبح رئيسًا لتحرير الأهرام، وأصدر قرارًا بأن أكون مديرًا لتحرير الأهرام، ومشرفًا على جميع صفحاته الثقافية والفنية.. وودعت مشوارى فى القسم الاقتصادى وتغيرت الأسماء ما بين أحمد بهاء الدين ويوسف السباعى وعلى حمدى الجمال وأصبح إبراهيم نافع رئيسا للتحرير وحقق حلمه القديم.
ــــــ كنا أحيانًا نختلف فى بعض المواقف والآراء، وكان خلافنا من البداية أن لكل منا قناعات، ومواقف، وطموحات تختلف عن الآخر، وإن بقى بيننا تقدير عميق .. كانت أحلامه التى حققها أن يصبح رئيسًا لتحرير الأهرام، أما أنا فقد تأخر عليّ الحلم كثيرًا فى زمنه وتوقيته.. وقد عرض عليّ د. يحيى الجمل أن أكون رئيسا للتحرير فى حكومة د.عصام شرف. كان إبراهيم نافع يحلم بالثراء، وكنا نتحدث فى ذلك كثيرًا، وكنت أرى المال مجرد وسيلة، وقد حقق ما أراد، وحققت ما أردت.
كان الخلاف بيننا أن إبراهيم نافع كانت عيونه على السلطة والمنصب وكانت عيونى وأحلامى تتجه إلى الشارع والناس وقضايا الإنسان كما أن الشعر منذ البداية كان قضيتى حتى وإن اختارتنى الصحافة كاتبا.. فرقت بيننا الأحلام وإن شق كل منا طريقه على راحته واختياره.
ــــــ فى سنوات عمله رئيسًا للأهرام، سادت بيننا علاقات طيبة، فلم يعد هناك مجال للاختلاف كما أننى لم يعد لدى ما أسعى إليه، منصبا أو صاحب قرار، وكان الخلاف يبدو أحيانا فيما اكتب أو أنتقد فيه سلطة القرار وكثيرا ما حدث ذلك.. كان إبراهيم نافع من أهم الشخصيات التى تركت علامة فى مشوارى فى الأهرام.. كان أول من التقيت، وكان مصدر خلاف حول مواقف كثيرة مع الأهرام والسلطة، وأسلوب الحياة والطموحات، وقبل هذا مسئولية الكاتب موقفًا وقناعات وتاريخًا.
ــــــ خلال سنوات عشر عملت فيها محررا اقتصاديا مع إبراهيم نافع، مقيما أو غائبا، وودعت الأرقام وعدت إلى مملكة الشعر التى اختارتنى وبقيت فترة الاقتصاد من أهم فترات تكوينى الفكرى والثقافى، وكان الشعر يشبعنى وجدانيا وجاء الاقتصاد وجعلنى أفكر بقلبى وأسافر مع عقلى، وكلاهما كان ضروريا فى رحلتى مع القلم.. كنت حزينا يوم أن تركت الأرقام والاقتصاد.. أقام إبراهيم نافع كتيبة من الزملاء بعدى عبدالرحمن عقل وأسامة غيث وعبدالمنعم عثمان، ثم أسامة سرايا وكان أسعدهم حظا فقد أصبح رئيسا لتحرير الأهرام.. أما أنا فقد انسحبت إلى مملكة الشعر قدرى واختياراتى.
ــــــ كانت السنوات العشر الأولى من رحلتى فى الأهرام مع إبراهيم نافع، اتفاقًا واختلافًا، صداقةً وبُعدًا. كان يكبرنى بأربعة عشر عامًا، لكنه كان أول وأهم أقدارى فى الأهرام، وأول من عملت معه، وإن فرقت بيننا الأحلام والحسابات والرؤى.
انتهت السنوات العشر، وعدنا أكثر قربًا، فقد اختار كلٌّ منا طريقه. أصبحت مشرفًا على صفحة ثقافية جديدة، بينما شقَّ هو طريقه نحو رئاسة الأهرام. كنتُ أجلس مع السيدة جيهان السادات فى بيتها على نيل الجيزة حين أخبرتنى بأن إبراهيم نافع جاء رئيسًا لتحرير الأهرام، وأن وراء قرار اختياره د.مصطفى خليل رئيس الوزراء.
ــــــ أصبح إبراهيم نافع على رأس الأهرام وحقق حلمه فى المنصب، وبقى بيننا كثير من الود، وإن تشاركنا فى عدد من الأصدقاء الذين كنا نجتمع معهم من وقت لآخر، د. حجازي، ود. القيسوني.. د.حامد السايح، زكريا توفيق عبدالفتاح، جمال الناظر حسن عباس زكى، كامل دياب، مصطفى رشدى، صلاح دياب، محمد غانم، فتحى المتبولي.
ودارت بنا الأيام، فأصبح إبراهيم نافع رئيسًا للأهرام، وبقيتُ على عهدى مع الأهرام شاعرًا وكاتبًا. اختار كلٌّ منا طريقه. كنتُ دائم السؤال عنه عندما سافر إلى أمريكا فى أزمة صحية، وعاش فى دبى فترة فى أيامه الأخيرة. وكنتُ عاتبًا عليه، فلم يزرنى فى المستشفى فى محنتى مع القُضاة وقضية التوريث، ولم يُهنِّئنى حين حصلتُ على جائزة الدولة التقديرية عام 2000، وإن حضر زفاف ابنى.
ــــــ بقيت عندى شهادة فى حق إبراهيم نافع، وقد رافقته نصف عمرى ؛ أنه كان مهذبًا ونبيلًا فى خصومته، ونزيهًا فى أسلوبه، وأن الأهرام شهد فى عهده أزهى مراحل تفوقه وازدهاره.
..ويبقى الشعر
شهداؤنا .بين المقابر يهمسونْ..
والله إنا قادمونْ..
فى الأرض ترتفع الأيادِي..
تنبُت الأصوات فى صمت السَكونْ.
واللهِ إنَّا راجعُونْ..
تتساقَطُ الأحجَارُ يرتفعُ الغُبارُ..
تُضِيءُ كالشًمسِ العيونْ..
واللهِ إنَّا راجعُونْ..
شُهداؤنا خَرجُوا مِنَ الأكفانِ..
وَاِنْتَفَضُوا صُفُوفًا، ثُمَّ رَاحُوا
يصرخونْ..
عَارٌ عَلَيْكُمْ أَيَّهَا الْمُسْتَسْلِمُونَ..
وَطَنٌ يُبَاعُ.. وَأُمَّةٌ تَنْسَاقُ قَطْعَانًا..
وَأَنْتُمْ نَائِمُونْ!!
< < <
شهداؤنا فَوْقَ الْمَنَابِرِ يَخْطُبُونْ
قَامُوا إِلَى لُبْنَانَ صَلُّوا فى كَنَائِسِهَا..
وَزَارُوا المَسْجِدَ الْأقْصَى..
وَطَافُوا فِي رِحَابِ الْقُدْسِ..
وَاِقْتَحَمُوا السُّجُونْ..
فِي كُلُّ شِبْرٍ..
مِنْ ثَرَى الْوَطَنِ الْمُكَبًَلِ يُنْبِتُونْ..
مِنْ كُلُّ رُكْنٍ فِي رُبوعِ الْأُمَّةِ الثَّكْلَى..
أَرَاهُمْ يخرجونْ..
شهداؤنا وَسَطَ الْمَجَازِرِ يهتفونْ..
اللهُ أكْبَرِ مِنْكَ يَا زَمَنِ الجنونْ..
اللهُ أكْبَرِ مِنْكَ يَا زَمَنِ الجنونْ..
اللهُ أكْبَرِ مِنْكَ يَا زَمَنِ الجنونْ
< < <
شهداؤنا يتقدمونْ..
أَصُوَّاتُهُمْ تَعْلُو عَلَى أَسْوَارِ بَيْرُوتِ الْحَزِينَةِ..
فِي الشَّوَارِعِ .. فِي الْمُفَارِقِ .. يهدرونْ..
إنْي أَرَاهُمْ فِي الظَّلَامِ يُحاربونْ..
رَغْم اِنْكِسَارِ الضَّوْءِ..
فى الْوَطَنِ الْمُكَبًَلِ بِالْمَهَانَةِ..
وَالدًمَامَةُ..وَالْمُجُونُ..
وَاللهُ إِنَّا عَائِدُونْ..
أَكْفَانُنَا سَتُضِيءُ يَوْمًا فِي رِحَابِ الْقُدْسِ..
سَوْفَ تَعُودُ تَقْتَحِمُ الْمَعَاقِلُ ..والحصونْ
من قصيدة «متى يفيق النائمون» سنة 1998