صلاح طاهر  تاريخ من الفن الجميل

صلاح طاهر .. تاريخ من الفن الجميل

صلاح طاهر .. تاريخ من الفن الجميل

 العرب اليوم -

صلاح طاهر  تاريخ من الفن الجميل

بقلم : فاروق جويدة

 

قليلا ما يجتمع الفن مع الفلسفة ، لأن المسافة تبدو أحيانًا بعيدة بين سكينة الفن وصخب الفلسفة، بين عواصف العقل وشواطئ الوجدان.. رغم أننى كنت دائمًا أسافر على شواطئ الفن، فإن عقلى كثيرًا ما ألقى الرحال، وجلسنا معًا نتحاور ونختلف ، وكثيرًا ما تركت له القرار .. أقول هذا وقد عشت صداقة جميلة مع واحدة من أهم مدارس الإبداع فى مصر، وهو المبدع المتفرد صلاح طاهر..

ـــــــ عرفته سنوات طويلة، وكانت بيننا حوارات وشطحات وقضايا، وكنت شديد الإعجاب بكيفية تحاوره بعقله فى أصعب القضايا، وكيف كان يمسك ريشته ويبدو حادًا وهو يسبح فى عالم الألوان.. كثيرًا ما كنت أزوره فى مرسمه فى بيته ونتحدث طويلًا فى عالم الفن والإبداع.. كان له تفسير يعجبنى فى درجات الإبداع، إذ يرى أن هناك مبدعًا له قدرات النسر، يحلق فى أبعد نقطة فى الكون ، وهناك مبدع آخر يحمل رقة العصافير وهو يتنقل بين أغصان الأشجار قريبًا من الأرض.. فلا تطلب من النسر أن يكون عصفورًا، ولا تطلب من العصفور أن يكون نسرًا.

 

ـــــــ كان صلاح طاهر يؤمن بأن الإنسان يستمد قوته من روحه وليس جسده، وأن روح الإنسان نوع من الذبذبات الكونية التى تتفاوت فى قوة موجاتها.. إنها تشبه موجات الراديو؛ هناك موجات بعيدة المدى تخترق المسافات، وهناك موجات قصيرة المدى.. وهذا ينطبق على الإنسان حسب قدراته التى صنعه الله عليها.. كان صلاح طاهر يمارس كل أنواع اليوجا، إذ اعتبرها وسيلة من أهم طرق الحوار مع الكون، وهى لحظة مكاشفة تشبه ما يحدث مع الصوفية حين يذوب الإنسان فى الكون ويصبح جزءًا منه.

ـــــــ كان صلاح طاهر ملازمًا للعقاد فى فترة من حياته ، وتأثر كثيرًا بهذه الرفقة التى جنحت به أحيانًا إلى حوارات شائكة.. بل إن العقاد كان يأنس كثيرًا إلى صلاح طاهر، ويحكى له عن همومه.. كان العقاد يعيش محنة عاطفية مع فتاة صغيرة أحبها، وكانت فنانة شهيرة، طلب من صلاح طاهر أن يرسم تورتة جميلة وعليها ذبابة، فرسمها صلاح ووضعها العقاد أمامه فى غرفة نومه.. ذهب صلاح إلى العقاد يومًا، فوجده يستعد لاستقبال ضيف عزيز.. مضى الوقت ولم يحضر الضيف ، فاتضح أنها الفتاة التى يحبها العقاد.. كان العقاد حزينًا وقال لصلاح: «لو أن صديقًا دعاك إلى مطعم فول، وفى طريقك إليه دعاك صديق آخر إلى مطعم لحوم، إلى أين تذهب؟» قال له صلاح: «كيف يكون ذلك وأنت العقاد؟» فقال العقاد: «إن المرأة مخلوق عجيب؛ تقبل اليد التى يرفض الشرفاء أن يصافحوها، وترفض أن تصافح اليد التى يتمنى الشرفاء أن يقبلوها».. كان صلاح طاهر يتحدث كثيرًا حول حواراته مع العقاد، ولا شك أن صداقته مع العقاد أضافت له بُعدًا فلسفيًا عميقًا.

ـــــــ كانت أجمل اللحظات حين يجتمع أنيس منصور وصلاح طاهر، وكانا من أقرب الأصدقاء.. كما كان صلاح طاهر يقدّر كثيرًا توفيق الحكيم، ويحرص على لقائه الأسبوعى يوم الخميس مع كتّاب الأهرام الكبار، وكثيرًا ما اشتبكوا فى حوارات ممتعة كنت أراقبها بكل الحب والإعجاب.

ـــــــ رسم صلاح طاهر كل رموز مصر.. وذات يوم طلبنى وقال: «قررت أن أرسمك» ذهبت إليه وبدأ يخلط الألوان..، وقد أعد برواز اللوحة.. قضينا معًا ساعات فى حوارات وأحاديث وألوان، واتفقنا أن يكمل اللوحة بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع.. كنت أستعد لهذا اللقاء، وخطوط صلاح تنطق أمامي. لاحظت أنه اختار فترة سابقة من حياتي، واهتم كثيرًا بالعيون وتعامل معها بتفاصيل دقيقة.. كنت حريصًا على متابعة خطوط صلاح وهو ينقل ملامحى وكيف يراني.. اعتدنا أن نجتمع كل أسبوع ؛ هو يرسم وأنا أراقبه، وبيننا تدور الحوارات فى كل شيء.. طالت المدة، وصلاح يرسم وأنا أنتظر.. كان أحيانًا يغيب أو أسافر خارج مصر، وكنا نلتقى ليكمل اللوحة.. مرّ عامان وقلت له: «صلاح، أنا كبرت، ولابد أن تتغير اللوحة، الملامح تتغير كل يوم، والشعر الأبيض لن ينتظر». ذهبت إليه وبدأ يرسم الخطوط الأخيرة وقال: «نكمل الأسبوع القادم». قلت له: «صلاح، بالنسبة لى اللوحة انتهت.» أخذتها وصافحته ومضيت..

لم يكن صلاح بخيلًا، فقد أهدانى مجموعة من اللوحات جمعت كل مراحل إبداعه، ما بين التجريد والطبيعة والتصوف، فى كل مرحلة، تكتشف عبقرية صلاح طاهر بين الواقعية والتجريد، خاصة مراحله الأخيرة حين جسّد الذات الإلهية فى إبداعات تشع منها أنوار إلهية فريدة.

ـــــــ عاش صلاح طاهر وتجاوز التسعين من عمره، متنقلًا بين حوارات العقل وريشة الفنان ، وما بين الألوان، أخذ صلاح طاهر مساحة كبيرة فى تاريخ الإبداع المصري، وخاض تجارب كثيرة بين الواقعية الشديدة والتجريد المحلق.. فى كل حالاته، بقى علامة فى تاريخ الثقافة المصرية.

كان صلاح طاهر تجربة إبداعية وثقافية فريدة، فقد كان يؤمن بوحدة الفنون، وكان رمزًا من رموز الثقافة المصرية فى عصرها الذهبي، إلى جانب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. كان صديقًا للعقاد ومحبًّا للشعر والموسيقى، ورسم خلال مشواره أكثر من ألف بورتريه، متجاوزًا مختلف مدارس الفن التشكيلى عبر عصوره المتعددة.

ومازال ابنه، الفنان أيمن طاهر، يُكمل مسيرته، وإن كان قد اختار طريقًا آخر. لقد اقتربتُ من صلاح طاهر سنوات طويلة، وكانت بيننا حوارات كثيرة حول قضايا الإبداع والفن، حيث كان يحمل تجربة ثرية وفريدة جعلته رمزًا من رموز الإبداع المصري، بل والعالمي، سواء من حيث الرصيد أو العطاء أو الفكر.

ـــــــ كانت أمتع اللحظات عندى عندما نجتمع أنا وأنيس منصور وصلاح طاهر؛ رفقة العمر والزمن الجميل..

 

◙   ◙  ◙  ◙

..ويبقى الشعر

 

مِنْ عَشْر سِنِينْ

مَاتَ أبـِى بَرصَاصَةِ غَدْرْ

كـَفـَّنـْتُ أبـِى فى جَفـْن العَيْن ِ

ولـَنْ أنـْسَى عُنـْوَانَ القـَبْرْ

فـَأبـِى يتمدَّدُ فـَوْقَ الأرْض ِ

بـِعَرْض الوَطـَنِ.. وطـُول النـَّهْرْ

بَينَ العَيْنَين تنـَامُ القـُدْسُ

وفِى فـَمِهِ.. قـُرآنُ الفـَجْرْ

أقـْدَامُ أبـِى فـَوْقَ الطـَّاغُوت

وَصَدْرُ أبى أمْوَاجُ البَحْرْ

لمحُوهُ كـَثيرًا فِى عَكـَّا

بَيْنَ الأطـْفـَال يَبيعُ الصَّبْرْ

فِى غـَزَّة قـَالَ لمنْ رَحَلـُوا

إنْ هَانَ الوَطنُ يَهُونُ العُمرْ

نبتـَتْ أشْيَاءُ بقـَبْر أبـِى

بَعْضُ الزَّيُتونِ وَمِئـْذنـَةُ.. وحَدِيقة ُزهْرْ

فِى عَيْنِ أبـِى

ظهَرَتْ فِى اللـَّيْل بحيرة ُعِطـْرْ

مِنْ قـَلـْبِ أبـِى

نـَبتتْ كالماردِ كـُتـْلة ُ صَخْرْ

تسَّاقـَط ُ منهَا أحْجَارٌ فى لـَوْن ِ القـَهْرْ

الَّصخْرَة ُ تحْمِلُ عِنـْدَ اللـَّيل ِ

فـَتنجـِبُ حجَرًا عِندَ الفَجْرْ

وتـُنجـِبُ آخرَ عندَ الظـُّهْرْ

وتـُنجـِبُ ثالثَ عندَ العَصْرْ

أحْجَارُ الصَّخْرةِ مِثـْلُ النـَّهْرْ

تـَتدَفــَّقُ فوْقَ الأرضِ..

بعَرْض الوَطن ِ.. وطـُول القـَبْرْ

وَمضَيتُ أطـُوفُ بقـَبْر أبـِى

يَدُهُ تـَمتـَدّ.. وتحْضُنـُنى

يَهْمِسُ فى أذنـِى

يَا وَلدى أعَرَفـْتَ السِّرْ؟

حَجَرٌ مِنْ قـَبْرى يَا وَلـَدى

سَيَكـُونُ نِهَاية عَصْر القـَهْرْ

لا تـُتـْعبْ نـَفـْسَكَ يَا وَلـَدى

فِى قـَبْرى كـَنـْز مِنْ أسْرَارْ

فالوَحشُ الكـَاسرُ يَتـَهَاوَى

تـَحْتَ الأحْجَارْ

عَصْرُ الـُجبنـَاءِ وعَارُ القـَتـَلةِ

يَتـَوارَى خـَلـْفَ الإعْصَارْ

خَدَعُونـَا زَمَنــًا يا وَلدِى

بالوَطن القـَادِم .. بالأشْعَارْ

لـَنْ يَطلـُعَ صُبْحٌ للجُبنـَاءْ

لـَنْ يَنـْبُتَ نـَهْرٌ فى الصَّحْرَاءْ

لـَنْ يَرْجعَ وَطنٌ فى الحَانـَاتِ

بأيدِى السِّفـْلة.. وَالعُملاءْ

لـَنْ يَكـْبُرَ حُلمٌ فـَوْقَ القـُدْس

وعَينُ القـُدْس يمزِّقـُهَا بَطـْشُ السُّفـَهَاءْ

لا تـَتـْركْ أرضَكَ يَا وَلـَدى

لكلابِ الصَّيدِ.. وللغـَوْغـَاءْ

أطـْـلـِقْ أحْجَارَكَ كالطـُّوفـَان ِ..

بـِقـَلـْبِ القـُدس.. وَفِى عَكـَّا

واحْفـُرْ فِى غَزَّة بحْرَ دِمَاءْ

اغْرسْ أقـْدَامَكَ فـَوْقَ الأرْض ِ

فـَلـَمْ يَرْجعْ فِى يَوْم ٍ وطنٌ للغـُرَبَاءْ

بَاعُونـَا يَوْمًا يَا وَلدِى.. فِى كـُلِّ مَزَادْ

اسألْ أرشيفَ المأجُورينَ..

وفـَتـِّشْ أوْراقَ الجَلادْ

اسأْلْ أمريكـَا يَا وَلـَدى..

وَاسألْ أذنـَابَ الـُموسَادْ

إنْ ثاَر حَريقٌ فى الأعْمَاق ِ

يَثـُورُ الكـَهَنة ُ.. والأوْغادْ

فتصِيرُ النـَّارُ ظلالَ رَمَادْ

سَيجىءُ إليْكَ الدَّجَّالـُونَ بأغنيَةٍ

عَنْ فـَجْر سَلامْ

السِّـلمُ بضَاعة ُ مُحْتـَال ٍ وبَقـَايَا عَهدِ الأصْنـَامْ

والسِّـلمُ العَاجزُ مقبرةٌ.. وسُيُوفُ ظلامْ

لا تـَأمَنْ ذئـْبًا يَا وَلـَدى أنْ يَحْرُسَ طفـْلًا فى الأرْحَامْ

لنْ يُصْبحَ وَكـْرُ السَّفـَّاحِينْ وإنْ شئـْنـَا.. أبْرَاجَ حَمَامْ

لنْ يَنـْبُتَ وَطـَنٌ يَا ولدى فى صَدْر سَجينْ

لنْ يَرْجعَ حَقٌّ فى أنفاس المخْمُورينْ

حَجَرٌ فى كـَفـِّـكَ يَا وَلـَدى سَيْفُ الله فلا تـَأمَنْ

مَنْ شَربُوا دَمَّ المحْرُومِينْ

مَنْ أكـَلـُوا لحْم المسْجُونينْ

مَنْ باعُوا يَومًا قـُرْطـُبَة َ

مَنْ هَتـَكـُوا عِرْضَ فلسْطيــِنْ

فاقـْطعْ أذنـَابَ الدَّجَّالينْ

واهدمْ أبْراجَ السَّفـَّاحِينْ

لتعيدَ صَلاحَ .. إلى حِطـِّينْ

فِى وَطـَنِكَ قبرُكَ يَا وَلـَدى

لا تـَتـْرُكْ أرْضَكَ مَهْمَا كـَانْ

أطـْـلقْ أحْجَارَكَ يَا وَلـَدِى فى كـُلِّ مكـَانْ

ابدَأ بخَطايَا دَاودٍ

واخْتم برءوس ِ الكـُهَّانْ

لا تتـْرُكْ فى الكـَعْبَةِ صَنـَمًا

ولـْتـَحْرقْ كـُلَّ الأوْثـَانْ

لنْ يُصْبحُ بيتُ أبـِى لهبٍ

فِى يَوْم ٍ دَارَ أبى سُفـْيانْ

لا تـَسْمَعْ صَوْتَ أبـِى جَهْـل ٍ

حَتـَّى لـَوْ قـَرأ الـُقرآنْ

فزمَانـُكَ حَقـًا يَا وَلدى

زَمَنُ الإيمَان .. الإيمَانْ

واجْعَلْ مِنْ حَجرك مئذنة ً

ودُعاءَ مسيح.. أوْ رُهْبَانْ

واجْعَلْ مِنْ حَجرك مِقـْـصَلة ً

واخْرسْ تعويذة كـُلِّ جَبَانْ

فالزَّمَنُ القادمُ يَا وَلـَدى

زَمنُ الإنـْسَانِ.. الإنـْسَانْ

arabstoday

GMT 10:33 2025 الجمعة ,07 شباط / فبراير

تاريخ التهجير

GMT 10:30 2025 الجمعة ,07 شباط / فبراير

الخارج على النظام

GMT 10:29 2025 الجمعة ,07 شباط / فبراير

حملة إيرانيّة على سوريا... عبر العراق

GMT 10:27 2025 الجمعة ,07 شباط / فبراير

توقعات الانهيار والبدائل العجيبة

GMT 10:26 2025 الجمعة ,07 شباط / فبراير

«بونجور» ريفييرا غزة

GMT 10:25 2025 الجمعة ,07 شباط / فبراير

إيران: الخوف والتباهي

GMT 10:24 2025 الجمعة ,07 شباط / فبراير

بين الشماغ والكوفية

GMT 10:23 2025 الجمعة ,07 شباط / فبراير

من التصفية إلى التهجير!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صلاح طاهر  تاريخ من الفن الجميل صلاح طاهر  تاريخ من الفن الجميل



هيفا وهبي تعكس الابتكار في عالم الموضة عبر اختيارات الحقائب الصغيرة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 13:06 2025 الجمعة ,07 شباط / فبراير

محمد سعد يحتفل بنجاح "الدشاش" بطريقته الخاصة
 العرب اليوم - محمد سعد يحتفل بنجاح "الدشاش" بطريقته الخاصة

GMT 09:58 2025 الخميس ,06 شباط / فبراير

قربى البوادي

GMT 12:49 2025 الأربعاء ,05 شباط / فبراير

حورية فرغلي تلحق قطار دراما رمضان بصعوبة

GMT 10:17 2025 الأربعاء ,05 شباط / فبراير

لعن الله العربشة والمتعربشين
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab