حمدى قنديل كانت بيننا ذكريات

حمدى قنديل.. كانت بيننا ذكريات

حمدى قنديل.. كانت بيننا ذكريات

 العرب اليوم -

حمدى قنديل كانت بيننا ذكريات

بقلم : فاروق جويدة

كان يستحق أن يكون فى صدارة المشهد تأثيرًا وحضورًا وموقفًا، ولكنه وجد نفسه دائمًا فى ساحات الحصار، حتى فى فترات منحها الحب والولاء والعمر، ورحل بلا صخب أو ضجيج، وإن كتب شهادته على كل العصور..

أتحدث عن حمدى قنديل، الإعلامى القدير، وصاحب المواقف ، والرجل الذى عاش مخلصًا لقناعاته وتاريخه..

◙ كنت أشاهد حمدى قنديل فى برنامجه الأشهر «رئيس التحرير» على شاشة التلفزيون المصرى فى عصره الذهبى ، وكان جريئًا رغم كل الظروف التى كانت تحيط بالحريات والرأى الآخر.. ويبدو أنه كان يتمتع بمكانة خاصة لدى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وقد بقى حمدى قنديل على عهده به بعد رحيله ، فلم يُنكر أنه كان ناصرى الهوي.. خفت نجم حمدى قنديل قليلًا بعد رحيل الزعيم ، ولكنه ظل يتمتع بوهج وبريق أيامه..

◙ لم نلتقِ أنا وحمدى فى هذه الفترة ، وكانت أول فرصة تتاح لنا فى عشاء فى عاصمة النور باريس، وكان لقاءً حافلًا بذكريات كثيرة، وكانت لديه قصص كثيرة منذ ترك دراسة الطب والتحق بمجلة «آخر ساعة» مع كاتبها الكبير مصطفى أمين، وتنقل بين حدائق صاحبة الجلالة متابعًا ومحاورًا وكاتبًا، ولا شك أن تجربة حمدى قنديل فى الصحافة أضافت لمشواره رصيدًا كبيرًا.. حين أصبح من أكثر نجوم التليفزيون بريقا وحضورا..

◙ حين التقينا لأول مرة فى باريس فى اجتماعات اليونسكو، وقد استمرت شهرًا كاملًا، شهدت أكبر حدث فى تاريخ المؤسسة العالمية راعية الفكر والتراث والثقافة، فقد انسحبت أمريكا من المنظمة فى عام 1984، وهى التى تموّل ربع ميزانيتها، وارتبكت الاجتماعات، وكانت فرصة لفتح الحوارات بيننا.. وكثيرًا ما كنت أزور الموسيقار محمد عبدالوهاب أثناء إجازته السنوية فى مقره الشهير فى الجناح الإمبراطورى فى فندق إنتركونتننتال ، درة باريس..

قضينا معًاــ حمدى وأنا شهرًا ــ كاملًا فى باريس بين اجتماعات اليونسكو ومقاهى الشانزليزيه وشوارع باريس المضيئة..

◙ عدنا إلى القاهرة وكنا نلتقى على فترات، وكنت أحمل تقديرًا عميقًا لمشوار حمدى قنديل.. كان وطنيًا مخلصًا شديد الانتماء، وكان عربيًا، وكان من أكثر الناس دفاعًا عن القضية الفلسطينية وهى مناطق جمعتنا كثيراً..

فى إحدى حلقات برنامجه «رئيس التحرير» كان يتحدث عن انتفاضة الحجارة، ويبدو أن الحديث لم يلقَ الترحيب لدى بعض القادة العرب، وانعكس ذلك على القرار فى مصر، وتم إلغاء برنامج حمدى قنديل، وانسحب الرجل فى هدوء، وإن بقى محافظًا على مواقفه وقناعاته الوطنية، مدافعًا عن عروبة مصر، وقضية فلسطين، رافضًا حالة العجز والاستسلام التى أصابت الأمة العربية..

◙ كان انتقاد حمدى قنديل للقرار العربى من أهم الأسباب وراء إبعاده عن الأضواء، ورغم ذلك لم يتنازل عن ثوابت موقفه وقناعاته.. وسط العواصف الشديدة التى عاشها حمدى قنديل، أرسلت له الأقدار هدية جميلة، فقد تزوج من الفنانة نجلاء فتحي، وعوّضته كثيرًا عن متاعب الرحلة ومعاناة المشوار، ووقفت بجانبه فى أصعب اللحظات.. ذات ليلة دعانى إلى حفل بسيط فى بيته فى عيد ميلاد زوجته نجلاء فتحي، وكانت ليلة جميلة استمتعت فيها بحوار جميل مع عمر الشريف، ويومها أبديت له تقديرى لدور الشاعر الذى أداه ببراعة فى فيلمه العالمى الشهير «د. زيفاجو»، عن قصة الكاتب والشاعر الروسى العظيم يورى باسترناك..

◙ كان حمدى قنديل مؤمنًا بجدوى الحراك السياسي، وأن الشعوب لا بد أن تعبّر عن مواقفها بكل الحرية، ولهذا تفاعل مع أحداث يناير، وإن هاجم بعض رموزها أو الذين تخلّوا عنها وخذلوها.. ذات يوم أثناء أحداث يناير، قرر المجلس العسكرى أن أُشرف على اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وتقرّر أن أرأس اجتماعًا للعاملين فى الاتحاد مع عضو المجلس العسكرى طارق المهدي، وحين أخذت مكانى فى صدارة الاجتماع، وجدت أمامى حمدى قنديل وفاروق شوشة، وخجلت من نفسى واعتذرت.

◙ لم تنقطع علاقتى بحمدى قنديل، وكنت دائم السؤال عنه.. وذات يوم اتصل بى وقال: عندى برنامج جديد، اخترت له عنوانًا «قلم رصاص»، وأريد أن تكتب لى أبياتًا أبدأ بها حلقات البرنامج..

وفى الحلقة الأولى أرسلت له أبياتًا تقول:

لمْ يبْقَ لِى غَيْرُ القَلَمْ ... هَدَأَ الصَّهِيلُ وَسَافَرَ الفُرْسَانُ ... وَاسْتَلْقَتْ عَلَى القَاعِ القِمَمْ ... جَفَّ المِدَادُ وَشَاخَتِ الكَلِمَاتُ ... وَارْتَحَلَ النَّغَمْ .. حِينَ أسْتَوَى فِى الأَرْضِ صَوْتُ اللهِ ... كَانَ العَدْلُ دُسْتُورَ الأُمَمْ ... فَإِلَى مَتَى نَمْضِى ... وَنَشْكُو حُزْنَنَا الدَّامِى ... وَنَصْرُخُ مِنْ تَبَارِيحِ الأَلَمْ .. وَإِلَى مَتَى سَنَظَلُّ نَشْكُو .. كُلِّ جَلَّادٍ ظَلَمْ ...أَطْلِقْ جِيَادَكَ مِنْ كُهُوفِ الصَّمْتِ .. وَاحْلُمْ... أَجْمَلُ الأَشْيَاءِ فِينَا... صَبْرُ إِنْسَانٍ حُلْمْ ... الأَرْضُ يُحْيِيهَا رَبِيعٌ قَادِمٌ ... وَضَمِيرُ هَذَا الكَوْنِ ... يَسْكُنُ فِى قَلَمْ

نجح برنامج «قلم رصاص»، وأصبح شرفة مضيئة للوعى والحوار والوطنية، وعاد حمدى قنديل يُغرد مرة أخرى على الشاشات العربية، وكان يتنقل بين قضايا الوطن وأزمات الأمة وحيرة الشعوب وأحلامها.. وقد عانى كثيرا فى مشواره بين الصحافة والتليفزيون وقد سجل ذلك فى مذكراته التى صدرت تحت عنوان «عشت مرتين»..

◙ فى سنواته الأخيرة، استقر على برنامجه «قلم رصاص» الذى عاد به متألقًا، وقضى خمس سنوات يقدمه قبل أن يتعرض لعاصفة شديدة انتهى بها البرنامج.. وقد عاش تجربة صحية قاسية فى آخر أيامه.. كانت مصادفة غريبة أن يبدأ البرنامج بأبيات من شعرى أهديهتا له، وكان عنوانها «لم يبقَ لى غير القلم». وفى آخر حلقة من البرنامج، اختار أبياتًا من إحدى قصائدى التى ثار حولها جدل كبير فى وقتها ، وهى: «هذى بلاد لم تعد كبلادى»

قد كان آخر ما لمحتُ على المدي

والنبضُ يخبو... صورةُ الجلّادِ

قد كان يضحكُ والعصابةُ حولَهُ

وعلى امتدادِ النهرِ يبكى الوادي

وصرختُ والكلماتُ تهربُ من فمي

هذى بلادٌ لم تَعُد كبلادي

قرأ حمدى الأبيات وكان يبكى وظهرت دموعه على الشاشات وكانت آخر عهدى به

 

***

..ويبقى الشعر

 

وَأخْتَرْتَ أَنْ تَمْضِي

وَبَيْنَ يَدَيْكَ مِسْبَحَةٌ

وَفِى عَيْنَيْكَ يَخْبُو ضَوْءُ قِنْدِيلٍ هَزِيلْ

وَتَوَضَّأَتْ عَيْنَاكَ مِنْ عِطْرِ السَّحَابِ

وَكَانَ ضَوْءُ الشَّمْسِ يَبْكِي

بَيْنَ أَنَّاتِ الْأَصِيل

وَوَقَفْتَ تَرْصُدُ خَلْفَ دَمْعِ الشَّمْسِ مِئْذَنَةً

تَوَارَتْ فِى ظَلَامٍ دَاكِنٍ

وَتَكَسَّرَتْ جُدْرَانُهَا البَيْضَاءُ كَالصُّبْحِ الْقَتِيلْ

وَاخْتَرْتَ أَن تَمْضِى عَلَى ضَوْءِ السَّنَابِلِ

بَيْنَمَا الْأَطْفَالُ يَنْهَمِرُونِ كَالطُّوفَانِ

فِى الْقُدْسِ الحُزِينَةِ .. وَالجَلِيلْ

فِى سَاحَةِ الأَقْصَى صَلَاةٌ تَسْتَجِيرُ.

وَرَكْعَةٌ تَكْلَى تَطُوفُ بِلا دَلِيلٌ

وَأَصَابَعُ الْأَطَفَالِ فِى الطُّرُقَاتِ

أَشْلَاءٌ مُمزَّقَةٌ تُلَوِّحُ مِنْ بَعِيدٍ.

تَرْفُضُ الْعَجْزَ الذَّلِيلُ

مَازَالَ يَصْرُخُ بَينَ أعْيُنهْم جَوَادٌ جَامِحٌ

وَدِمَاءُ أَحْجَارٍ تَسِيلْ

هَذِى دُمُوعُكَ لَمْ تَزَلْ تَنْسَابُ

فِى صَخَبِ المَزَادِ، وَكُلُّ شَيْءٍ حَوْلَنَا

يَبْكِى عَلَى الْوَطَنِ الجَمِيلْ

هذَا زَمَانٌ يَقْتُلُ الشُّعَرَاءَ

لَا أَدْرِى لِمَاذَا

يَقْطَعُ الْكُهَّانُ فِى أَوْطَاننَا شَجَرَ النَّخِيلْ ؟!

هَذِى الوُجُوهُ العَابِثَاتُ

عَلَى ضِفَافِ النَّهْرِ

تَحْرِقُ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ بُسْتَانِ ظَلِيلْ

يَتَرَنَّحُونَ عَلَى الْكَرَاسِى كَالسُّكَارَى

بَيْنَمَا الطُّوفَانُ يَزْارُ حَوْلَنَا

وَعَلَى رُفَاتِ الْأُمَّةِ الثكْلَي

يَفِيضُ الدَّمْعُ.. يَرْتَفِعُ الْعَوِيلْ

وَمَوَاكِبُ الْكُهَّانِ تَرْقُصُ فِى المَزَادِ

وَكُلَّمَا مَالَتْ قُوَى الطُّغْيَانِ

فِى سَفَه نَمِيلْ

زَمَنٌ يَبِيعِ الضُّوءَ فِى عَيْنِ الصَّغَارِ

يُقَايِضُ الأَحلامَ بِالْأَوْهَامِ

يَلْهَثْ عَارِيًا

وَإِذَا سَأَلتَ تَثاءَبَ الْكُهَّانُ

فِى ضَجَرٍ.. وَقَالُوا : مَا الْبَدِيلْ ؟!

مُوتُوا عَلَى ظَهْرِ الخُيُولِ

وَلَا تَمُوتُوا خَلْفَ وَهْمٍ مُسْتَحِيلْ

***

وَاخْتَرْتَ ضَوْءَ الْفَجْرِ

آخِرَ مَا تَرَاهُ عُيُونُكَ الحَيْرَي

مِن الزَّمَنِ الْبَخِيلُ

كَانَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ

آخِرَ لَحْظَةٍ فِى الْعُمْرِ

كَانَتْ سُورَةُ الرَّحْمَنِ

آخِرَ مَا تَلَوْتَ.. وَأَنْتَ تَهْفُو لِلرَّحِيلْ

أتُرَى رَحَلْتَ ...

لأَنَّ آخِرَ أَمْنِيَاتِ العُمْرِ شَاخَتْ

فاسْتَرَاحَ النَّبْضُ فِى الْقَلْبِ الْعَلِيلْ ؟!

أتُرِى رَحَلْتَ

لأَنَّ شُطَآنَ الجِدَاوِل

فى الظلامِ تَآكَلَتْ وَاسْوَدَّ مَاءُ النِّيلْ؟!

أتُرِى رَحَلْتَ

لأَنَّ جُرْذَانَ الشَّوَارِعِ

يَنْخَرُونَ الآنَ فِى الجَسَدِ النَّحِيلْ؟!

فى آخِرِ المِشْوَارِ تَحْمِلُ مَا تَبَقَّي

مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ .. وَالشَّهْرِ الْفَضِيلْ

***

 

كَانَتْ عُيُونُكَ

فَوْقَ مِئْذَنَةِ الحُسَيْنِ

وَكَانَ وَجْهُكَ شَاحِبًا

وَقَصَائِدٌ ثَكْلَى تَئِنُّ عَلَى الضَّرِيحْ

فِى آخِرِ الدَّرْبِ الطَّوِيلِ

يُطِلُّ قِنْدِيلٌ حَزِينٌ أَسْقَطَتْهُ الرِّيحْ

وَعَلَى المَدَى تَبْكِى الْعَصَافِيرُ الَّتِي

سَمِعَتْ أَنَا شِيدَ الْهَوَى

وَتَرَاقَصَتْ زَمَنًا مَعَ النَّاى الجُرِيحْ

سَطْرانِ فِى ذَيْلِ الجَرِيدَةِ..

شَاعِرٌ يَمْضِي.. وَعُصْفُورٌ ذَبِيحٌ

***

 

هَلْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ آخِرَ مَا سَيَبْقَي

مِنْ حَصَادِ الْعُمْرِ قِنْدِيلٌ ضَرِيرْ؟

هَلْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ آخِرَ مَا سَيَبْقَي

مِنْ شُمُوخِ النَّهْرِ دَمْعٌ فِى غَدِيرْ؟

مَنْ قَالَ إِنَّ حَدَائِقَ الصَّبَارِ

تَحْمِل فِى أَنَامِلِهَا الْعَبِيرْ؟!

فِى آخِرِ المِشْوَارِ

يَبْقَى طَيْفُ حُلْمٍ

صُغْتَهُ يَوْمًا خُيُوطًا مِنْ حَرِيرْ

وَهُنَاكَ فِى الْأُفْقِ الحَزِينِ

يَمَامَةٌ تَبْكِى وَعُصْفُورٌ كَسِيرٌ

نَامَا.. مَعَ القُلَبِ الْكَبِيرْ

arabstoday

GMT 20:41 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

اغتيال فاطمة حسونة منح فيلمها الحياة

GMT 20:34 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

هل أخطأت سلسلة بلبن؟

GMT 20:32 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

غزة مسئولية من؟

GMT 06:30 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

الأردن في مواجهة إوهام إيران والإخوان

GMT 06:26 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

«هزيمة» أم «تراجع»؟

GMT 06:24 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

رجل لا يتعب من القتل

GMT 06:20 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

عصر الترمبية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حمدى قنديل كانت بيننا ذكريات حمدى قنديل كانت بيننا ذكريات



تنسيقات مثالية للنهار والمساء لياسمين صبري على الشاطيء

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 08:34 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

قطة تثير ضجة بين الصحفيين في البيت الأبيض

GMT 02:02 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

زلزال قوته 5.5 درجة يهز جزيرة سيرام الإندونيسية

GMT 01:44 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

إسرائيل تلغي تأشيرات 27 برلمانيا فرنسيا

GMT 01:54 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

واتساب سيتيح قريبًا ترجمة الرسائل داخل الدردشة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab