عندما دخلت قسم الصحافة فى كلية الآداب بجامعة القاهرة كانت الجامعة حافلة بعدد كبير من رموز الثقافة المصرية ما بين الأدب العربى واللغات الأجنبية والتاريخ والجغرافيا والعلوم والزراعة.. وكانت كلية الآداب تجمع عددًا من كبار الأساتذة: محمد مندور، عبد اللطيف حمزة، شوقى ضيف، سهير القلماوي، محمد أنيس، رشاد رشدي، زكريا إبراهيم، مصطفى سويف ويحيىالخشاب.. كانت هذه النخبة تمثل ساحة فريدة من ساحات الفكر والثقافة..
ــــــ اعتدت أن أطوف فى محاضرات الأقسام الأخرى غير قسم صحافة الذى انتسبت إليه.. وكان اختيارى الأول د.شوقى ضيف، رئيس قسم اللغة العربية.. ذهبت إليه فى مكتبه وقلت له : «أنا أدرس فى قسم الصحافة وأكتب الشعر»، وقدمت له كراسة فيها عدد من قصائدي.. ومضت أيام، وحين رآنى قال : «إنت فين؟ لقد انتظرتك»، وأخذنى إلى مكتبه وقال: «أما أنك شاعر فأنت شاعر، وأعجبتنى قصائدك فيها إحساس جميل ولغتك سليمة»، وبدأ يضع علامات على أبيات أعجبته وقال: «فى شعرك شيء لم يكتمل، أنت ما زلت تحب شبابيكي، لم تنصهر بعد فى حب حقيقي، ما زلت تسبح على الشاطئ، وحين تحملك الأمواج بعيدًا سوف تكتب شعرًا أجمل.. اقرأ كثيرًا، تحب الشعر أكثر، وتعيش الحب الحقيقي».. سمعت د.شوقى وكنت سعيدًا بما قال، ومن يومها صدقت نصيحته أن أترك الشاطئ وأسافر بين الأمواج.. ولا أدرى من أغرق الآخر، هل أغرقتنى نصيحة د. شوقى ضيف بأن أترك الحب الشبابيكى حتى أكتب شعرًا جميلًا.. المهم أننى سافرت فى البحار ولم أرجع حتى الآن..
ــــــ كان د. شوقى ضيف من أهم العلامات فى تاريخ الأدب العربي، وكان من أكبر النقاد الذين تعاملوا مع الثقافة العربية حبًا وعمقًا وإحساسًا.. وقد أحب الشعر العربى وسافر فيه إلى أبعد مدى قديمًا وحديثًا ومعاصرًا.. وقبل هذا كله كان متيمًا باللغة العربية وسافر فى آفاق الشعر العربى من أمير الشعراء أحمد شوقى إلى ابن زيدون فى الأندلس.. فى مقدمة النقاد العرب يتصدر شوقى ضيف المشهد متذوقًا وناقدًا وباحثًا.. وكانت له جولات وأسفار كثيرة مع الشعر.. ورغم أن د.شوقى كان أستاذًا فى جامعة القاهرة، فإن كتبه ما زالت حتى الآن تدرس فى جميع أقسام اللغة العربية فى الجامعات العربية.. ومازالت كتبه ودراساته من أكثر الكتب الأكاديمية مبيعًا فى العالم العربي.. سوف يتوقف التاريخ كثيرا عند إبداعات شوقى ضيف فى عشرات الكتب التى حلق بها فى تاريخ ورموز الثقافة العربية.. ومنها سلسلة فى تاريخ الأدب العربى وكتاب المدارس النحوية وعالمية الاسلام وكتاب مع العقاد
ــــــ كان د.شوقى يتمتع بروح الأبوة الجميلة، واعتدت أن أحضر كل محاضراته، وكثيرًا ما كنت أقرأ عليه قصيدة جديدة فى مكتبه.. ويتدخل بقلمه يصلح بعض الكلمات فيها.. تخرجت فى قسم الصحافة والتحقت بجريدة الأهرام، وامتدت علاقتى مع د. شوقى وكان يومها رئيسًا لمجمع اللغة العربية.. وبدأت أنشر قصائدى فى الأهرام وكان يتصل بى ويشيد بها ويقول: «لقد تركت الحب الشبابيكى وبدأت تسبح فى أعماق البحار».. كثيرًا ما كنت أزوره فى بيته فى الجيزة ونتحدث فى كل شيء.. وكان من أنبل الناس أخلاقًا وترفعًا.. مرت الأيام بنا، وعلاقتى بالدكتور شوقى ضيف تزداد عمقا وتقديرا.. كانت مجموعاتى الشعرية تصدر تباعًا فى الأسواق. وذهبت يومًا إلى د. شوقى وقلت له: «دواوين شعرى سوف تصدر فى أول جزء من أعمالى الكاملة عن دار نشر تهامة السعودية فى طبعات للدول العربية، وأريدك أن تكتب مقدمة لها».. ورحب الكاتب الكبير بطلبى، وكتب المقدمة لكى أتوج بها رحلتى مع أستاذى د.شوقى ضيف.. قال فيها
«وفاروق جويدة ينزع فى شعره منزع أصحاب الاتجاه الوجداني. وحقًا، إنه يحتمل فى حبه غير قليل من الألم، إذ دائمًا ينأى عنه الأمل فى اللقاء، ودائمًا لا يبقى له من حبه إلا ذكرى تملأ نفسه لوعة وحسرة.. ونرى فاروق جويدة فى ديوانه الأول: «حبيبتى لا ترحلي» شاعرًا يعانى عمق غربته فى الحياة. وقد اقترنت عنده بغربة حقيقية، فهو ريفى هاجر من القرية إلى المدينة تاركًا وراءه ملاعب الصبا ويتعمقه الإحساس بالغربة ويفتح عينيه حوله فى المدينة على مناظر لا يألفها:، ويحن إلى القرية وكل ما فيها من جداول وأشجار ونباتات ورياحين وأناس بسطاء.. تنعكس على الديوان أصداء من الشعر الواقعى المعاصر، فيحس آلام البؤساء والتعساء المحرومين، ويتألم إذ يرى حوله جوعى ولا من يمد إليهم يدًا بطعام، وظمأى ولا من يمد إليهم يدًا بكوب ماء، وعرايا ولا من يمد إليهم يدًا بكساء أو رداء.. ويختلط ذلك عنده بأسراب من النزعة الواقعية فى الشعر المعاصر؛ فالحياة مليئة بالبؤس، والذئاب تعوى فيها، والأرض تأكل زرعها، والأم تقتل طفلها، وكل ما فى المدينة حوله مكر وغدر وبطش وعدوان.. نفس هذا النغم يلقاه القارئ فى ديوانه الثالث: «وللأشواق عودة»، وتلقاه معه ذكريات حبه المخفق الذى يملؤه لوعة وأسى مع إحساسه بالوحشة والوحدة..ويلتفت إلى مصر وأمجادها وبطولاتها على مر التاريخ، ويصور شغف أبنائها بها وتقديسهم لها تقديسًا يفوق كل وصف.. وينشد:
حملناك يا مصر بين الحنايا وبين الضلوع وفوق الجبين
فهيّا اخلعى عنـك ثــوب الهمـوم غــــدًا ســوف يأتى بما تحلمين
ويلتقى القارئ فى الديوان الرابع: «فى عينيك عنواني» بنفس الحلم بالحب وذكرياته، ويقول الشاعر إنه مات فى ظلام الليل ومات معه ضوء الصباح. والديوان الخامس: «دائمًا أنت بقلبي»، يكتظ بأشباح الهجر والحرمان والحب الضائع، بل لقد ضاع كل شيء ولم يبق إلا اللوعات والعبرات والظلام الداجى ..ولا يزال الشاعر فى ديوانه السادس: «لأنى أحبك»، يتجرع فى مرارة ذكريات حبه. إذ تلاشت أحلامه وتبددت ويتلفت حوله، فلا يرى إلا وحوشًا ضارية تنقض على كل شيء وتلتهمه التهامًا، وينشد:
الوحش يأكلنا
ويشرب عمرنا.
فى الديوان السابع: «شيء سيبقى بيننا»، لا يزال يشعر بغربة موحشة وهموم الإنسان العربى الذى فقد فردوسه: «القدس». ويناجيها:
ألا والله ما بعناك يا قدس
فلا سقطت مآذننا
ولا انحرفت أمانينا
ولا ضاقت عزائمنا
ولا بخلت أيادينا
فنار الجرح تجمعنا
وثوب اليأس يشقينا.
وهو يؤثر فى أداء شعره الموسيقى أنغام الشعر العربى بأوزانه وقوافيه، مع تأثره فى كثير من الأحيان بأصحاب الشعر الحر فى تقصيرهم لبعض السطور بحذف بعض التفاعيل. وعلى غرارهم يصنع ببعض الشطور..
ــــــ وعشت سنوات عمرى أدين بالحب والعرفان لهذه القامة الشامخة فى ثقافتنا العربية.. وأفتخر دائمًا بأننى كنت واحدًا من أبناء د. شوقى ضيف وتظللت بهذه الشجرة العريقة حبًا للشعر وعشقًا للغتنا العربية الجميلة، ووفاءً لكل من أخذ بيدى وشاركنى متاعب الرحلة ومصاعب الطريق..
ــــــ بقى د. شوقى ضيف فى حياتى عالمًا وأستاذًا وصديقًا وباحثًا وناقدًا من طراز فريد فى الصبر والإصرار واحترام الذات والبحث عن الحقيقة.. وكلما تذكرت نصيحته أن أترك الحب الشبابيكى وأعيش الحب الحقيقى وأن أبحر بين الأمواج وأترك الشاطئ، أقول لنفسي: «كان شوقى ضيف صادقًا فى نصيحته»، رغم أننى لم أتعلم السباحة واكتفيت بالغرق..
عشت أحمل للدكتور شوقى ضيف مشاعر حب وعرفان منذ التقينا وأنا طالب فى جامعة القاهرة وكان أول من قرأ شعرى وشجعنى ومضت بيننا سنوات العمر ليكتب مقدمة أعمالى الشعرية الكاملة فى طبعة للدول العربية وفوجئت به يكلمنى حين حصلت على جائزة الدولة التقديرية فى عام 2000 ويهنئنى، وبقى شوقى ضيف أستاذى علامة فى تاريخ الثقافة العربية أستاذا وباحثا ومبدعا وحارسا من حراس لغتنا الجميلة فى كل عصورها..
..ويبقى الشعر
وَكانتْ بيْننا ليـْلـةْ
نثرْنا الحبَّ فوقَ ربـُوعهَا
العَذراءِ فانتفضتْ
وصَارَ الكونُ بستـَاناً
وفوقَ تلالها الخضْراءِ
كم سكرت حَنـَايانـَا
فلم نعرفْ لنا اسمًا
ولا وَطنـًا وعـُنوانـَا
وكانتْ بيننَا ليـْلــْة
سَبحتُ العُمرَ بينَ مياههَا الزرقـَاءِ
ثم َّرَجعتُ ظمآنا
وكنتُ أراكِ يا قدرِي
مَلاكاً ضلَ مَوطنَه
وعاشَ الحبَّ انسَانـَا
وكنتُ الرَّاهبَ المسجُونَ فى عَيْنيكِ
عاشَ الحبَّ مَعصيةً
وذاقَ الشوقَ غـُفرانَا
وكنتُ أموت فى عينيك
ثمَّ أعُود يَبْعثــُني
لـَهيبُ العطرِ بُركانـَا
وكانتْ بيننَا ليلةْ
وَكانَ المْوجُ فِى صَمْتٍ يُبعثرُنـَا
علىَ الآفاق ِشُطآنــَا
ووَجهُ الليلِ
فوقَ الغيمةِ البيْضاءِ يحمِلنا
فنبْنى مِنْ تلال ِالضّوءِ أكـْوانـَا
وكانتْ فرحة الأيام
فى عينيكِ تنثــُرنِى
على الطرقاتِ ألحانا
وَفوقَ ضِفافكِ الخضْراءِ
نامَ الدهرُ نشوَانـَا
وأَقْسَمَ بعد طولِ الصَّدّ
أنْ يطوِى صَحائفنَا وَيَنسانـَا
وكانَ العمرُ أغنيةً
ولحـْنـًا رائع َالنغمَاتِ
أطربنا وأشجانا
وكانتْ بيـْننا ليلةْ
جلستُ أُراقـِبُ اللحظَاتِ
فِى صمت ٍتودّعُنـَا
ويجْرى دمعُها المصْلوبُ
فوقَ العْين ألوانَا
وكانتْ رِعشة ُالقنديلِ
في حـُزن ٍتـُراقبـُنا
وتـُخفِى الدمْعَ أحيَانـَا
وكانَ الليلُ كالقنَّاص يَرصدُنَا
ويسْخرُ منْ حكايانـَا
و روّعنَا قـِطارُ الفجـْر
حينَ أطلَّ خلفَ الأفـْق سكـْرانَا
تـَرنحَ فى مَضاجعِنا
فأيقظنا وأرّقنـَا ونادانـَا
وقدّمنا سنين العمرِ قـُربـَانا
وفاضَ الدَمعُ
فى أعماقنا خوْفــًا وأحزانا
ولمْ تشفعْ أمام الدهِر شكــْوانا
تَعانقنا وصوتُ الرّيح فى فزعٍ يُزلزِلـنا
ويُلقى فى رماد الضوءِ
يا عمْري بقايانـَا
وسَافرنَا
وظلتْ بيننَا ذكـْري
نراهـَا نجْمة ًبيضاء
تخـُبو حينَ نذكُرهَا
وتهْربُ حينَ تلقانـَا
تطُوف العمرَ فى خَجلٍ
وتحْكى كلَّ ما كانـَا
وكانتْ بيننَا ليلهْ