كانت زيارة الرئيس الفرنسى ماكرون للقاهرة ولقاؤه الرئيس عبدالفتاح السيسى حدثًا تاريخيًا، شهد لقاء القمة العاهل الأردنى الملك عبدالله.. وكانت الزيارة متعددة الجوانب والآفاق، وتصدرت غزة والإبادة الجماعية ومواكب الجوع، التى تهدد حياة أكثر من 2 مليون إنسان، المشهد، أمام صمت دولى وتواطؤ أمريكى ووحشية إسرائيلية فى القتل والدمار لم يشهد العالم مثلها فى أسوأ عصوره وأكثرها انحطاطا.. تنوعت زيارة ماكرون وامتدت، وشملت اتفاقيات تعاون فى كل المجالات، وهى تفتح صفحة جديدة بين مصر وواحدة من أكبر وأهم الدول الأوروبية، وهى ليست بعيدة عن مسار العلاقات التاريخية بين مصر وفرنسا، لأن لها جذورها التاريخية والحضارية والإنسانية، وفى مصر نخبة كبيرة تدين للثقافة الفرنسية..
◙ بين مصر وفرنسا تاريخ طويل من العلاقات التى تنوعت وأخذت أشكالاً ومجالات كثيرة ما بين الثقافى والعسكري، ومن أقدم العلاقات التى ربطت بين مصر وأوروبا كانت العلاقات الثقافية مع فرنسا، ابتداءً ببعثات محمد على ورفاعة الطهطاوى وانبهار الخديو إسماعيل بالنموذج الفرنسى عمارة وثقافة وتاريخا، وانتهاءً بدور فرنسا فى كشف كنوز الآثار المصرية على يد شامبليون، وحجر رشيد، واللغة الهيروغليفية.. كان الشعب الفرنسى من أكثر شعوب العالم اهتماما بالحضارة المصرية، وكانت فرنسا من أكثر الروافد الثقافية التى اتجهت إليها النخبة المصرية، ثقافةً ولغةً وتعليما..
◙ من هنا تأتى أهمية لقاء الرئيس عبدالفتاح السيسى والرئيس ماكرون، وهى زيارة تاريخية تم فيها توقيع عدد من الاتفاقيات فى كل المجالات، بما فى ذلك التعاون الاستراتيجي.. كان واضحا أن مصر وفرنسا تتفقان فى قضايا أساسية، فى مقدمتها العدوان الإسرائيلى على غزة والضفة، ورفض التهجير وتجويع الشعب الفلسطيني، والملاحة فى البحر الأحمر، ودعم فرنسا مشروع إعادة إعمار غزة.. إن العلاقات بين مصر وفرنسا تشهد فى الفترة الأخيرة تطورا كبيرا فى أكثر من مجال، خاصة التعاون العسكرى جويا وبحريا، وهو دعم لقدرات مصر وتنويع لمصادر السلاح، وبداية مرحلة جديدة مع الاتحاد الأوروبي..
◙ نحن أمام زيارة شاملة ناجحة، خاصة أن التعاون بين البلدين شمل توريد طائرات الرافال، وإنشاء مشروعات المترو، والتوسع فى التعاون الاقتصادي، ودعم فرنسا برنامج الإصلاح الاقتصادى مع صندوق النقد الدولي.. إن زيارة الرئيس الفرنسى تأتى فى ظروف صعبة يمر بها العالم، والمؤكد أن فرنسا تدرك أهمية الدور المصري، خاصة أن إسرائيل، بدعم أمريكي، أشعلت النار فى أكثر من دولة، وأن العالم فى حاجة إلى قدر من الحكمة حتى لا يواجه العالم كوارث أكثر.. لأول مرة يقضى رئيس فرنسى كل هذا الوقت فى زيارة رسمية لمصر ولهذا تعددت جوانب الزيارة ما بين الموسكى وخان الخليلى والحسين وهى أماكن تحمل دلالات كثيرة..
◙ توقفت كثيرا عند كلمة الرئيس الفرنسى ماكرون فى جامعة القاهرة وكانت رسالة حب إلى شباب مصر، خاصة أنه كان يتحدث أمام رؤساء وأساتذة وطلاب الجامعات المصرية، بما فيها الجامعة الفرنسية أشاد فى كلمته بشباب مصر، وقال إن الثروة البشرية هى أغلى ما تملك الشعوب، وإن شباب مصر أهم ثرواتها.. وحين قدَّم نصائحه للشباب، قال إن الجامعات هى أهم مراكز الوعى والمعرفة والقرار، وإنها أعلى سلطة فى الدولة وتسبق كل المواقع الأخرى.. ودعا الشباب إلى البحث والمعرفة والفكر النقدى والسفر، والحرص على جذور الانتماء للوطن، والحوار مع الآخر، والانفتاح على العالم، وألا تكون الأيديولوجيات سجنا لأصحاب المواهب والقدرات.. وأن مستقبل العالم فى العلم والمعرفة والحرية ولا تقدم بدون الحريات، وأن الشباب هم قاطرة التقدم، وأن العولمة تعنى قدرة الشعوب على فهم الآخر دون أن تفرّط فى مكوناتها وتتخلى عن جذورها ..
◙ كان الرئيس ماكرون واجهة مشرفة لوطن قاد سفينة الحريات بين شعوب العالم منذ عشرات السنين، وكان مرتبا فى أفكاره، وقد انعكست ثقافته ودراسته للفلسفة، والمناصب التى تولاها، وتجربته الثرية فى الحكم، على حديثه فى جامعة القاهرة، أعرق وأقدم جامعات مصر.. وقد بدا ماكرون متمكنا، واثقا، مثقفا، متحمسا لأفكاره وثوابته، وهذا يمثل نموذجا لثقافة عريقة قدمت نماذج إبداعية وفكرية تركت آثارها على ثقافات العالم.. إن رئيس فرنسا لم يكن مجرد زائر عابر ولكنه كان يمهد لدور ومسئولية جديدة فى عالم تزاحمت فيه الأدوار واختلت الموازين وتاهت أقدار البشر أمام طوفان من الصراعات وسرقة الأدوار وتهميش الشعوب..
◙ إن زيارة ماكرون للقاهرة والقمة الثلاثية بين الرئيس عبدالفتاح السيسى والعاهل الأردنى الملك عبدالله والرئيس ماكرون تمثل محورًا أساسيًا فيما يجرى من الأحداث بعد أن اختلت كل الموازين أمام حسابات خاطئة تمارسها أمريكا وإسرائيل دون وضع أى اعتبار لمصالح الشعوب وحقوقها فى الأمن والاستقرار..إن لقاء القمة الثلاثية فى القاهرة يضع أوروبا والعالم العربى فى مواجهة ضد مشروعات أمريكا وإسرائيل تجاه حقوق الشعب الفلسطينى وإقامة دولته ووقف العدوان الإسرائيلى على غزة والضفة ولبنان وسوريا واليمن فى هجمات وحشية افتقدت كل الأعراف والقوانين وحقوق البشر..
◙ هناك مشروع أمريكى صهيونى يسعى للهيمنة وفرض الوصاية على الشعوب العربية بأرضها وقرارها ومواردها وثرواتها، وهذا المشروع يجد دعمًا أمريكيًا وأطماعًا إسرائيلية تتجاوز كل الحدود بما فى ذلك تهجير شعب غزة صاحب الأرض وتحويل غزة إلى مشروع استثمارى تحت الوصاية الأمريكية بيعًا أو شراءً أو استئجارًا..من هنا تأتى قمة القاهرة لتؤكد رفض مصر والأردن وفرنسا فكرة التهجير وخروج الفلسطينيين من أرضهم، والإصرار على إعلان قيام الدولة الفلسطينية ووقف الإبادة الجماعية والتجويع وتدمير كل شيء..إن قمة القاهرة صرخة احتجاج ورفض ضد مشروع التوسع الصهيونى الذى تديره أمريكا وتنفذه إسرائيل قتلًا ودمارًا، وتأتى هذه القمة كى تعلن رفضها البيع والتهجير وهيمنة أمريكا وإسرائيل وفرض الوصاية على الشعوب العربية حتى لو كان الثمن دمار غزة وتهجير شعبها بقرار أمريكى مشبوه..
◙ كانت زيارة ماكرون للقاهرة ناجحة بكل المقاييس، فقد شاهد مصر: الموسكى والحسين وجامعة القاهرة، وهى مناطق مبهرة لمواطن فرنسى يعرف تاريخ مصر ودورها الحضارى، وهى أشياء يقدّرها الشعب الفرنسى منذ زمن بعيد.. إن زيارة ماكرون إلى العريش على حدود غزة فى رفقة الرئيس السيسى كانت موقفا إنسانيا تضامنا مع شعب غزة وآلاف المصابين والجرحى تؤكد بشاعة العدوان ووحشية القوة الغاشمة وتحمل أكثر من دلالة، لأنها تأتى فى لحظة تاريخية صعبة تم فيها تدمير وطن وتهجير شعب وإبادة جماعية أمام قوة غاشمة.. ولا شك فى أن زيارة ماكرون لحدود غزة مع رئيس مصر رسالة للعالم، لعلّه يفيق من غيبوبته وغياب ضميره وينظر إلى هذه المأساة قبل أن تكمل أمريكا وإسرائيل جريمتهما.. إن قمة القاهرة الثلاثية بين مصر وفرنسا والأردن رسالة إلى العالم «أن مستقبل الشعوب ينبغى ألا يكون مغامرة ومؤامرة ضد حق شعب أن يعيش آمنا على أرضه وناسه ووطنه..
..ويبقى الشعر
بَاريسْ ..
الآنَ أجْـلِسُ فى رُبُوعِكِ..
دُونَ هَمْسٍ أوْ كلامْ
قـَطـَعُوا لِسَانِى
إنـِّى فـَقـَدْتُ النـُّطـْقَ يَا بَاريسُ مِنْ زَمن ٍ بعَيدْ
قـَالـُوا بأنَّ النـَّاسَ تـُولـَدُ..
ثـُمَّ تنـْطِقُ.. ثـُمَّ تـَحْـلـُمُ مَا تـُريدْ
وأنـَا أعِيشُ وَفِى فـَمِى قـَيْدٌ عَنِيدْ
قـَطـُعوا لِسَانى..
قـَطـُعوه يَوْمًا عِنـْدَمَا سَمِعُوه
يَصْرُخُ فِى بَرَاءَتِهِ القـَدِيمَةِ
عِنـْدَ أعتابِ الكبَارْ
«إنــَّى أحِبُّ».. «وَلا أحِبُّ»
صَاَحُوا جَمِيعًا..
كـَيْفَ «لا» دَخَلـَتْ لِقـَامُوسِ الصِّغَارْ
صَلـَبُوا لِسَانِى عَلـَّقـُوه عَلى الجدَارْ
قـَطـَعُوه فِى وَضَحِ النـِّهارْ
مِنْ يَوْمِها وَأنا أقـُولُ.. ولا أقـُولْ
وَأرَى لِسَانِى جُثــَّة خَرْسَاءَ تنظرُ فى ذهُولْ
وأخافُ مِنـْه فـَرُبَّما يَومًا يَصِيحْ
وَيثور فى وَجْهى القبيحْ
فلقدْ رأيْتُ دِمَاءَهُ كالنـَّهْر..
تـُغرقُ وجْهَ أيَّامى.. وَيسقـُط كالذبيحْ
وَحَشيتُ مِن غَضبِ الكِبَارْ
مَازلـْتُ ألـْمحُ طيفهُ الدَّامِى.. عَلى صَدْر الجَدَارْ
فِى كـُلِّ وَقـْتٍ أمْضَغُ الكلِمَاتِ فِى جَوْفِى.. وأبَلعُهَا
وتنزفُ بَيْنَ أعْمَاقِى.. وَتصْرُخُ فى شرايينى
ويَحْمِلنِى الدُّوارُ.. إلى الدُّوَارْ
كلمَاتـُنـَا.. جُثثٌ تنامُ بدَاخِلِى
فأنا أقـُولُ.. ولا أقـُولْ
وأنا أمُوتُ.. ولا أمُوتْ
كلماتنـَا قتلـَى..
ودِماؤهَا السَّودَاءُ فى صَدْرى تـَسِيلْ
لا تـَعْجَبى بَاريسُ مِن صَمْتِى
فـَصَوْتِى بَيْنَ أعْمَاقِى قتِيلْ
◙ ◙ ◙
بَاريسْ ..
إنـَّى اكتفيْتُ بأنْ أرَى عَيْنيكِ
خلـْف «السِّين ِ» كـَالعُمْر الجَمِيلْ
فالصُّبْحُ فى عَيْنـَىَّ شىء مُسْتـَحِيلْ
والحُلمُ فى أعْناقِنـَا قيدٌ ثـَقيلْ
كمْ كـُنـْتُ أحْلـُمُ..
أنْ أجِىءَ إلـَيْكِ مَشْدُودَ الخُطـَى
لكنَّ قيْدًا فِى الضُّـلـُوع يشُدُّنِى
وأقومُ يَجْذبُنِى
وأصْرُخُ يَحْـتـَوينِى.. ثـُمَّ أسْقـُط كـَالحُطامْ
وأرَى الكلامَ يَسِيلُ مِنْ صَدْرى ..
وَينـْزفُ تحْتَ أقدَامِى ..
ويَلـْقِيهِ الزِّحَامُ.. إلى الزِّحَامْ
كلمَاتنا صَارتْ دِمَاءْ
وَدِماؤُنـَا صَارتْ كلامْ
◙ ◙ ◙
القيدُ يا بَاريسُ عَلــَّمنِى الكـَثِيرْ
فـَالضَّوْءُ فى أيَامِنـَا شَىءٌ مُحَالْ
والخُبْزُ للأبْنـَاءِ عَجْزٌ..
أوْ دُمُوع.. أو خَيَالْ
والحُلـْمُ فِى نـَومِى ضَلالْ
والصَّمْتُ أفْضلُ مِنْ سرَادِيبِ السُّؤَالْ
قـَالـُوا: لدَيْكِ يُسَافِرُ العُشَّاقُ..
فِى حُلـْم ٍ طـَويلٍ لا يَمُوتْ
والحُبُّ فِى أعْمَاقِنـَا
شبَحٌ تـُغلـِّفـُهُ المَنـَايَا..
فِى خُيوطِ العَنـْكبُوتْ
وإذا أتيْتُ إلـَيْهِ يَجْذبنِى
فأهْرَبُ.. أوُ أمُوتْ
الحُبُّ فِى دَمِنا يَمُوتْ
◙ ◙ ◙
بَاريسْ ..
إنـَّى أحَاولُ أنْ أقـُولَ لديْكِ شَيْئـًا..
آهِ مِنْ صَمْـتِى القـَبيحْ
قـَطـَعُوا لِسَانِى..
مَا زلـْتُ أخـْفِى بَعْضَهُ سِرًا..
وَيَنـْزفُ بَيْنَ أوْرَاقِى
أحنِطـُهُ كتِذكـَار لأيَّام ٍ مَضَتْ
لِى فِى رُبُوعِكِ قبلَ أنْ أمْضِى رَجَاءْ
سَيجىءُ ابنِى ذاتَ يَوْم ٍ
علـِّمِيه النـُّطقَ يا بَاريسُ
أنْ يحكِى.. وَيَصْرخ
أنْ يَقـُولَ كمَا يَشَاءْ
فلقدْ تركـْتُ لـَهُ لِسَانِى
بَيْنَ أوْرَاقِى ذَبيحْ
حَتـَّى تـَظلَّ دِماؤُه بَعْدِى تـَصِيحْ