بقلم - عادل مالك
قصتي مع الإعلام هي قصتي مع الحياة. فالإعلام بالنسبة إليّ كان نمط حياة وليس مهنة رتيبة بدوام من التاسعة صباحاً إلى الرابعة بعد الظهر.
كانت البداية مطلع حقبة السّتينات من القرن الماضي. وكم أسعدني حسن الطّالع أنني تتلمذت وعملت مع المثلث الإعلامي المميّز الأساتذة: كامل مروّه في «الحياة»، وجورج نقاش في جريدتي «الجريدة» و«الأوريان»، وغسان تويني في «النهار». أكتب هذا المقال ويخالجني الكثير من المشاعر وأنا أُنهي نصف قرن من العمل الإعلامي بكل فصوله المكتوب منه والمرئي والمسموع (خمسة وخمسون عاماً بالتمام والكمال). لائحة الذكريات طويلة لكنّني سأكتفي بالإشارة إلى بعض منها. كان لبنان من أوائل الدّول العربية التي شهدت افتتاح محطة تلفزيونيّة. وكانت البداية التلفزيونية حدثاً كبيراً في زمن الأبيض والأسود.
وخلال المقابلات ذات الطابع الشّخصي والإعلامي كان يُطرح عليّ السؤال التالي: بمَن تأثّرت في مهنتك؟
كنت أستغرب السؤال، فهو يفترض وجود مَن عملوا في مجال الإعلام التلفزيوني خصوصاً السياسي منه، إضافة إلى عدم وجود كليّات للإعلام في تلك الحقبة، لذا كان جوابي ممزوجاً ببعض الاستغراب: «إن طبيعة السؤال تفترض وجود جيل من الزملاء من الذين (سبقوني) في هذا المجال، لكنّ كلامي كان: لا أستطيع الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة نظراً إلى عدم وجود مَن سبقني فعلاً إلى العمل في التلفزيون». وأستعيد تلك الفترة لأقول إنّني ومع زملاء أعزاء على القلب مَن أرسينا قواعد تقديم نشرات الأخبار، ومن هنا كانت البداية. ومع تقديم الأخبار انطلقتُ إلى تقديم برنامج «سجل مفتوح» الذي يعد أوّل مجلّة مرئيّة على التلفزيون اللبناني، وكان مقسّماً بين اللقاءات مع السياسيين، إضافة إلى بعض المحطّات الفنيّة مع نجوم تلك الحقبة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، كنت كلّما ألّف الشاعر الكبير نزار قباني قصيدة ما، أستضفه في حلقات برنامجي «سجل مفتوح».
وذات يوم أسرّ إليّ شاعر الحب والمرأة والوطن، أنّه يودّ التعرّف إلى الفنان عبد الحليم حافظ، وقد عملت على إعداد اللقاء المميّز بين قمّة في الشعر وقمّة في الفن، وكان من نتائج هذه اللقاءات ظهور روائع العندليب كـ«رسالة من تحت الماء» و«قارئة الفنجان» وغيرها التي لا تزال تحتل المواقع المتقدمة من روائع الشعر والموسيقى والتي أضافها كبير آخر في الفن وهو محمد الموجي.
وفي سياق متصل يمكن الإشارة إلى لقاء القمّة بين عملاقي ذلك الزمن الجميل: فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. والقصة باختصار شديد، أنه نشأت بعض الحملات الإعلامية بين الرجلين وعمل بعض «الأوراق الصفراء» على استغلال هذه الحملات لتصبّ الزيت على النار. وحرصاً منّي على كرامة الرجلين دخلت في تقريب وجهات النظر بينهما، زرت فريد الأطرش وقلت: إنّ ما يصدر في الإعلام أمرٌ معيب بحقك وبحق عبد الحليم... فقاطعني بالقول: أنا لم أقل أي كلام سيئ عن حبيبي عبد الحليم...
قلت: هل توافق على ترتيب المصالحة بينك وبينه ما دمت أظهرت حسن النيّة؟
أجاب: الذي تراه... أنا موافق. فبادرت بالاتصال بعبد الحليم وكان يومها في المغرب على ما أذكر، وعرضت له الفكرة، فجاء مباشرةً في اليوم التالي إلى بيروت.
وتوافقنا على اللقاء في مبنى تلفزيون لبنان والمشرق في محلة الحازمية.
كان لقاء متميّزاً وفاجأ كثيرين، وكان عتاباً ودياً طغى عليه التقدير المتبادل بين الرجلين أزال سوء التفاهم، ولا تزال هذه المقابلة من برنامج «سجل مفتوح» هي اللقاء التلفزيوني الوحيد بين القمّتين. وفي سبيل تكريس هذه المصالحة اقترحت عليهما تقديم حفلة فنية مشتركة في عروس المصايف اللبنانية آنذاك (مدينة عاليه) لكنّ نشوب الحرب في أبريل (نيسان) من عام 1975 قضى على كل شيء.
وأمضي في تقليب صفحات مفكرتي لأستعيد التالي: ربطتني صداقة بـ«الأمينين» مصطفى وعلي أمين. وذات يوم حضر أمين إلى بيروت والتقينا في فندق «فينيسيا». وقبل الخوض في التفاصيل الأكثر جديّة، باغتني بالقول: «إنتم اللبنانيون حاجة غريبة». قلت: ما الأمر؟
قال: لقد سألت أين تقع جريدة «الجريدة»؟ فقيل لي قرب «مطعم العجمي»... وسألت أين تقع جريدة «النهار»؟ فقيل لي هي قرب «مطعم البرمكي»! مضيفاً: كل شيء عندكم مرتبط بالأكل... وأضاف: أتمنى لو قيل لي إنّ مطعم العجمي، يقع قرب جريدة «الجريدة»، وإن مطعم البرمكي قرب جريدة «النهار». لا أريد عبر هذا المقال أن أثير المواجع أو الوقوف على أطلال الماضي رغم آلامه وشجونه الكثيرة، بل هي قصة ذلك الإعلامي الذي يُقلّب صفحات مفكرته الحافلة والحاشدة بالأحداث والذكريات. إنني أدرك تمام الإدراك ضرورة تفقد الماضي لا لنقف أو نتوقف عنده، بل للتأكد وبشكل يقيني من عدم تكرار مآسيه، والإفادة من تجارب هذا الماضي على كل مآسيه. إذ ليس المهم ارتكاب الخطأ، بل ارتكاب نفس الأخطاء مرّة بعد مرّة.
إنّ المأساة التي أعايشها أنني وأبناء جيلي نتساءل: أين كنا؟ وأين أصبحنا؟ بعد انقضاء ما يزيد على نصف قرن في هذه المسيرة الإعلامية التي لا أحبها فحسب، بل أعشقها.
سألني صديق: «رغم مرور كل هذا الوقت هل لا تزال ترى ما يشدّك إليها وبالتالي: ألم يحن الوقت لوضع نقطة على السطر الأخير من قصيدة الحياة؟».
وجوابي كان: «كانت مهنتي ولا تزال، هي نمط الحياة ولم تكن مهنة بالمعنى الرتيب أو الروتيني، ولأنّها كذلك لن أستقيل منها. لأنّ هذه الاستقالة هي استقالة من الحياة، ولا أملك هذا الحق».
وأنهي على طريقتنا المهنيّة: إلى لقاء...