بقلم - سليمان جودة
فى مذكراته يقول موشى ديان، وزير دفاع إسرائيل فى أثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣، إنه كان يتابع أعمال الجبهة من مكانه فى تل أبيب، وإن أكثر ما لفت انتباهه أن روح المصريين فى الحركة على الجبهة كانت تفوق الوصف.
وإذا كانت خمسون سنة قد مضت على تحقيق نصر أكتوبر، فلقد صار فى مقدورنا أن نرى الصورة أوضح، وقد قالوا دائمًا إنك تستطيع رؤية ملامح اللوحة الفنية بشكل أوضح، كلما أخذت من جانبك خطوات بعيدًا عنها إلى الوراء، وكلما تطلعت إليها على مسافة بينك وبينها.. وهذا ما أظن أنه حاصل هذه اللحظة مع النصر العظيم، الذى أحرزناه فى ذلك اليوم، فمحونا به عار هزيمة ثقيلة حلت بنا فى الخامس من يونيو ١٩٦٧.
كانت إسرائيل قد أقامت خط بارليف الشهير على الضفة الشرقية، وكانت قد راحت تحصنه وتقويه، وكانت تقول إنه من المستحيل اجتيازه، فضلًا بالطبع عن فتح ثغرات فيه واقتحامه، وكانت وكأنها تؤسس للبقاء فى سيناء طويلًا، وكانت تتصور أن بارليف المنيع سوف يحمى ظهرها، وسوف يجعلها تشعر بالأمان.
كان خط بارليف مانعًا ترابيًا قويًا، ومن قبل الخط من جهة الغرب كانت هناك قناة السويس نفسها بمجراها الممتد على ما يقرب من ١٧٥ كيلو مترًا، وكان مجراها مانعًا آخر فى حد ذاته، وكان علينا بالتالى أن نجتاز مانعين قويين، أحدهما ترابى كان يقف كالجبل، والثانى مائى كان يتمدد ويمتد من رأس خليج السويس إلى شاطئ البحر المتوسط.
وكانت إسرائيل تنام على وسادة من حرير، وكانت مطمئنة تمامًا إلى أن ما استولت عليه فى ٥ يونيو قد صار فى قبضتها، وأنه لا سبيل إلى استعادته من جديد، ولكن ما كان ينقصها أنها لم تكن تعرف حقيقة المصريين، ولم تكن تعرف أن بقاء الأرض المحتلة لديها من ٦٧ إلى ٧٣ لم يكن يعنى أبدًا تسليمنا بذلك، ولم تكن تعرف أن للمصريين معها حسابًا سوف يأتى وقته.
وقد جاء وقته فى يوم السبت الموافق ٦ أكتوبر ١٩٧٣، وبالتحديد فى الساعة الثانية وخمس دقائق، فعندها زُلزت الأرض على الشاطئ الشرقى للقناه، وانطلق نسور الجو المصريون فى سماء سيناء، ولم يكن العسكريون الإسرائيليون يملكون والحال هكذا سوى الاستسلام أو الفرار، واكتشفت تل أبيب أنها أمام مارد لم تكن تعرفه ولا تتوقعه.
اكتشفت أن الروح المصرية على شاطئ القناه وفى سيناء روح أخرى غير التى تصورتها فى ٥ يونيو، وكانت تلك الروح هى التى عبرت بنا إلى الشاطئ الشرقى لقناة السويس، ولاتزال قادرة على العبور بنا فى كل اتجاه إذا عرفنا كيف نستحضرها.. ولا خيار أمامنا سوى استحضارها بأى طريقة.. والذين استحضروها فى المرة الأولى قادرون على استحضارها مرةً ثانية وثالثة.