بقلم - سليمان جودة
لا تفسير لما جرى مع طه حسين فى مماته وفيما بعد مماته، إلا أن عين العقاد قد أصابته، فلم يهنأ بشىء طوال ٥٠ سنة!.
كان العقاد يرى أن عميد الأدب العربى صاحب حظوة عند الحكومات المتعاقبة، وكان يحسده على ذلك، وكان يقول إن هذه الحكومات نفسها كانت كلما فكرت فى محاربة الشيوعية نشرت مؤلفاته هو، فإذا قررت ترشيح أحد لجائزة كبيرة رشحت طه حسين.
ولم يكن هذا صحيحًا على طول الخط، ولكنه كان صحيحًا بنسبة معينة، وربما كان السبب فى صحته أن طه حسين كان أكثر مرونة من العقاد، وكان بالتالى يستطيع أن يستوعب ما حوله مما يجرى، وكان العقاد على العكس.. فلقد جلس يومًا فى بيته ينتظر ناشرًا جاء يوقّع معه عقد نشر كتاب، فلما تأخر الناشر خمس دقائق قام لينام، وأغلق الباب، ورفض الرد على تليفون الناشر.
قد يراه بعضنا على حق فيما فعل لأنه احترم الموعد، ولم يحترمه الناشر، ولأنه يقدر قيمة الوقت، ولا يقدرها الناشر، ولكن الموقف لا يخلو على بعضه من صرامة اشتهر بها، ولا فرق فى ذلك عنده بين ناشر وغير ناشر.. والذين قرأوا للاثنين سوف يجدون الصرامة واضحة فى عبارة العقاد وهو يكتب، وسوف يجدون المرونة ظاهرة فى عبارة طه حسين فى المقابل وهو يُملى، وهذا ما تجده فى «الأيام» مثلًا، إذا قرأتها، ثم قرأت من بعدها كتاب «سارة» للعقاد.
ولكن لا شك أن عينه أصابت طه حسين من حيث لا يدرى، فمات فى عز حرب أكتوبر، وكانت الدنيا كلها منشغلة بالحرب وبالنصر، ولم يكن الانشغال تقليلًا من شأن عميد الأدب طبعًا، ولكن أنباء النصر الأكبر كانت كفيلة فى حد ذاتها بالتغطية على كل ما عداها، ولم يكن طه حسين الذى عاش يملأ الدنيا ويشغل الناس يتوقع أن يأتى فى مماته ما يصرف الاهتمام عنه وعن كل ما عدا الحرب والنصر.
ولم يكن هذا فى مماته يوم ٢٨ أكتوبر ١٩٧٣ وفقط، فمنذ ٢٥ سنة كنا نحتفل بالعيد الفضى للنصر، وكانت المناسبة هى نفسها ذكرى مرور ربع قرن على وفاة طه حسين، فكان أن انشغلنا عن الذكرى بالعيد الفضى، ولم ينتبه إليها كثيرون.
وفى هذا الشهر يجىء العيد الذهبى للنصر، وتجىء معه ذكرى مرور ٥٠ سنة على رحيل عميد الأدب، فيبدو العيد الذهبى وكأنه عصا موسى التى تبتلع كل ما سواها.. فليرحم الله العميد، الذى لم يتحسب لعين العقاد، ولم يضع خرزة زرقاء على باب ڤيلا «راماتان»، حيث عاش يسكن فى الهرم!.