بقلم - سليمان جودة
لا أحد يعرف لماذا توقفت اجتماعات وزراء خارجية دول الجوار الليبي لفترة طويلة، بعد أن عاشت شهوراً تتحرك وتتواصل حركتها، ولكن الذي نعرفه أن استئناف الاجتماعات هذا الأسبوع، هو نبأ سار لكل مواطن ليبي يتطلع إلى الحركة الدبلوماسية النشطة على مستوى هذه الدول، بوصفها أداة للدفع بالوضع في ليبيا إلى ما يجب أن يصل إليه.
وإذا كان آخر اجتماع لدول الجوار قد انعقد في أول شهور هذه السنة، فالحقيقة أن فترة التوقف كانت طويلة، بل كانت أطول من اللازم، إذا ما عقدنا مقارنة بين ملامح الوضع في ليبيا يوم توقفها في مكانها، وبين التطورات المتسارعة بعدها على الأراضي الليبية وصولاً إلى اليوم!
ولا ينطبق على استئنافها شيء قدر ما ينطبق عليه ذلك المعنى الذي يقول إنك إذا أتيت متأخراً، فإن ذلك بالتأكيد أفضل بكثير من ألا تأتي!
والظاهر أمامنا من عودة دول الجوار للاجتماع على أرض الجزائر وبدعوة منها بعد طول غياب، أنها عودة تبدو راغبة في أن تكون مختلفة عن اجتماعات المرة الأولى، وربما يكون السبب من وراء الاختلاف الذي يلحظه كل متابع لوقائع العودة هو توافر نية حقيقية في تعويض الغياب!
أبرز وجوه الاختلاف أن وزراء الخارجية الذين اجتمعوا من قبل، كانوا ثلاثة يمثلون مصر والجزائر وتونس وفقط، ولكن عددهم هذه المرة يتضاعف ليصيروا ستة، بعد أن يضاف إليهم وزراء خارجية السودان وتشاد والنيجر، بوصف الدول الثلاث من بين دول الجوار المباشر الست مع ليبيا.
وقد كان هذا العدد المكتمل هو المفترض منذ اللحظة الأولى، لأنه ليس من الممكن أن تتحدث عن اجتماع لدول الجوار الليبي، ثم يجتمع منها ثلاث في المرة السابقة ويغيب ثلاث، فكلها تحمل الصفة نفسها على مستوى حدودها المشتركة مع ليبيا، حتى ولو كانت دولتان منها غير عربية، وحتى ولو كانت حدود كل دولة منها تختلف عن حدود الأخرى من حيث الطول والامتداد!
ولا شك في أنها كلها معنية بالقضية الليبية التي تظل كالنهر الجاري إذا فاض، فإن ماءه يفيض على شواطئه القريبة أول ما يفيض!
ليس هذا وفقط، وإنما علينا ألا ننسى أن تشاد والنيجر يضمهما تجمع إقليمي شهير هو تجمع دول الساحل والصحراء، الذي يمتد من شرق القارة حيث تقع تشاد، إلى موريتانيا في أقصى غرب القارة مروراً بمالي وبوركينا فاسو.
وربما يكون هذا الرابط بين دول الجوار الأربع العربية وبين هاتين الدولتين، هو السبب الذي دفع ويدفع صانع القرار في الجزائر إلى بذل اهتمام خاص بالقضية الليبية، التي يتحسس أبناؤها طريق الذهاب إلى انتخابات آخر السنة في أمان.
وليس معروفاً ما إذا كانت الجزائر هي التي دعت إلى توسيع طاولة الجوار أم لا، ولكن ما نعرفه أنها أكبر دولة عربية من حيث مساحتها، وأن الفناء الخلفي لها يتمثل في مالي بالأساس، وأن الإرهاب يمرح ويلعب منذ سنوات على أرض هذه الأخيرة، وأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لما وجد نفسه شبه عاجز أمام حركة الإرهاب فوق أرض مالي قرر سحب قوات بلاده من هناك!
قد يكون ماكرون راغباً في الاعتماد أكثر على التشاديين في ملاحقة إرهاب الساحل والصحراء، بحكم ما تربطه بهم من صداقة سياسية معلنة، فلقد كانت باريس أشد العواصم تحمساً لأن يتولى محمد إدريس ديبي حكم تشاد، بعد اغتيال والده في ربيع هذه السنة على يد جماعات إرهابية.
وأياً كان تقدير فرنسا، فالذي يضع يده في النار ليس كمن يضعها في الماء كما يقال في مثل هذه الأحوال، ويد الفرنسيين هي في الماء طبعاً إذا ما قورنت بيد الجزائريين، مهما كان حجم مصالح العاصمة الفرنسية في هذه المنطقة الممتدة أفقياً في القارة السمراء.
ولا يحتمل الأشقاء الجزائريون جبهتين ملتهبتين، إحداهما على طول الحدود مع مالي، بكل ما في الأراضي المالية من تعقيدات، والثانية على امتداد الحدود مع ليبيا، بكل ما في داخلها من خلافات، وصراعات، واستقطابات لا تتوقف ولا تهدأ.
ومن الواضح أن عودة رمطان لعمامرة، إلى وزارة الخارجية الجزائرية، بعد أن كان قد غاب عنها لفترة، هي عودة مقترنة برغبة في ممارسة دور جزائري على ملعب القارة.
حدث هذا عندما تابعناه يزور أديس أبابا، والخرطوم، والقاهرة، طارحاً مبادرة هي الأولى من نوعها عربيا لحل مشكلة سد النهضة المستعصية بين العواصم الثلاث. وحين تكلم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن المبادرة، فإنه وصفها بأنها مبادرة جزائرية خالصة، وكان هذا يعني أنه يسجل قدرة بلاده على أن تطرح مبادرة في حل أزمة ناشبة بين دول أفريقية ثلاث، وعلى أن تحظى مبادرتها بالحد الأدنى من التوافق بين هذه الدول.
ولا تختلف مبادرة السد في طموحها، عن مبادرة توسيع زاوية دول الجوار، التي تسعى إلى أن يكون الحل في ليبيا من خلال أهل الدار في الجوار، لا أهل الإقليم الذين يطمعون في ثروات الليبيين، ولا أهل الأمم المتحدة الذين يتتابعون على طرابلس العاصمة في الغرب الليبي مبعوثاً من وراء مبعوث، فلا يتوجهون إلى حل الأزمة من أقصر طريق إليها، ولكنهم يعيدون إنتاجها وتدويرها باستمرار!
فهل تقلق الجزائر مما يتواتر من أنباء ساعة بعد ساعة عن وجود تركي في الغرب الليبي بالذات، وعن سيطرة تركية على أمور كثيرة في طرابلس وفي ضواحيها...؟! هذا وارد بقوة، وهو واضح علاوة على أنه وارد، لأن وجود تركيا في الغرب يعني وجوداً على الحدود المباشرة مع الجزائريين.
والغالب أن الرؤية التي تتبناها حكومة الجزائر تجاه ليبيا، لن تكون مصدر سعادة لدى الذين يسعدهم في الإقليم وفي الغرب أن تبقى القضية الليبية تتحرك في مكانها، فالرئيس تبون يتحدث عن شيئين على وجه التحديد؛ أولهما أن الحل لا بد أن يكون ليبياً مجرداً، وأن يكون بين الليبيين والليبيين، وثانيهما أن يجري ذلك بدعم قوي من دول الجوار المباشر!
والقراءة المتأملة لوقائع مؤتمر دول الجوار الست، تقول إن الدعم من جانبها للحل وفق هذه الرؤية، هو دعم جاهز، وحاضر، وقوي، وليس مطلوباً من أطراف العملية السياسية الليبية إلا أن تتوافق على ملامح خريطة الطريق إلى انتخابات آخر السنة.
فهذه انتخابات لا بديل عن أن تتم في موعدها المقرر سلفاً، لأن إتمامها في يوم استحقاقها معناه أن يصبح على رأس ليبيا رئيس يمثل إرادة ناخبيها، وأن يصير على أرضها برلمان يراقب أعمال حكومتها ويشرع القوانين للمواطنين، وبذلك يعود البلد بلداً طبيعياً بين البلاد.
ليبيا شأن ليبي قبل أن تكون شأن دول الجوار، وهي شأن دول الجوار قبل أن تكون شأن أطراف في الإقليم أو خارج الإقليم، فهذا ما تقول به تجربة السنوات العشر التي انقضت من دون حل، وهذا هو درس المبعوثين الأمميين الذين تتابعوا عليها كما يتتابع الليل والنهار!