بقلم - سليمان جودة
تتحدث تقارير منشورة في أكثر من مطبوعة عن أزمة مكتومة بين مصر وإسرائيل. وتضيف التقارير المتناثرة من مطبوعة إلى أخرى أن الأزمة لها سببان اثنان؛ أحدهما خاص بالحرب الإسرائيلية الأخيرة على حركة «الجهاد الإسلامي» في غزة، والآخر يتصل بقضية تفجرت مؤخراً عن جنود مصريين جرى قتلهم في موقع قرب القدس أيام حرب الأيام الستة في 1967.
والذين تابعوا الحرب على حركة «الجهاد» في وقتها يعرفون أنها توقفت بوساطة مصرية خالصة، وأنها كانت مرشحة لأن تطول وترهق الطرف الإسرائيلي أكثر، لو أن القاهرة لم تتدخل، ولو أن مصر لم تنشط وتتحرك طوال الأيام القليلة التي اشتعلت خلالها الحرب.
وكان وقفها مرتبطاً بتعهدات أخذتها تل أبيب على نفسها أمام الوسيط المصري، وكانت التعهدات تجعل إسرائيل ملتزمة بالإفراج عن معتقل فلسطيني، وإطلاق سراح أسير لديها من بين عناصر حركة «الجهاد»، وربما كانت هناك التزامات أخرى، ولكن هذا كان هو المعلن، وكان هو الالتزام الذي على الحكومة الإسرائيلية أن تفي به بمجرد أن تضع الحرب أوزارها.
ولكن الواضح مما يتسرب من أخبار أن حكومة يائير لبيد في تل أبيب تتملص من تعهداتها، وأنها تتعامل مع التعهدات التي قطعتها على نفسها بمنطق الرجل الذي كتب على مطعم كان يملكه لافتة بالبنط العريض تقول: الأكل غداً بالمجان! وكان كلما جاءه زبون من زبائن المطعم يطلب الطعام مجاناً، أخذه إلى اللافتة المعلقة على الباب ودعاه إلى أن يقرأها بصوت مرتفع، فيقول المسكين: الأكل في الغد بالمجان. فلا يقول صاحب المطعم شيئاً سوى أن ينبّه الزبون إلى أن ذلك سيكون غداً، لا اليوم، وهكذا وهكذا إلى ما لا نهاية، لأن لكل يوم غداً يتبعه بالضرورة، وبالتالي، فلا غد مما كان الزبائن يترقبونه سوف يأتي! ولم تكن سوى خدعة من مالك المطعم، وكان يواصل خداعه مع الزبائن نهاراً بعد نهار، وكان يتصور بهذا أنه أشطر منهم وأذكى، ولم يكن يلتفت إلى أنه قد يكون أشطر في خدعته، وقد يكون أدهى فيما كان يفعله، ولكن المقابل لهذا كله أنه كان يفقد مصداقيته لدى المترددين عليه يوماً بعد يوم!
وإذا لم يكن الطرف الإسرائيلي قد انتبه إلى هذا المعنى، فلا بد أنه مدعوٌّ إلى الانتباه له جيداً، سواء كان انتباهه مطلوباً في تعهداته بعد الحرب الأخيرة، أو كانت تعهدات تتعلق بما التزم به في وقت توقيع اتفاقيات السلام الإبراهيمي مع أربع عواصم عربية في السنة قبل الماضية.
والتعهدات في الحالة الثانية طبعاً أهم، لأنها تعهدات إزاء قضية فلسطينية بكاملها، وليست تجاه فصيل فلسطيني يبحث عن أسير يخصه، أو عن معتقل من بين عناصره، ففي حالة القضية يبقى الالتزام أعمّ وأشمل، ويبقى الوفاء به لا بديل عنه إذا كان لدى إسرائيل الحد الأدنى من الجدية في التعامل مع القضية.
ولا يقلل الالتزام تجاه القضية الأعم من شأن التعهدات يوم وقف الحرب على حركة «الجهاد»، فالالتزام التزام في النهاية، والوفاء بالتعهدات كان جزءاً من المسؤولية عن عملية وقف الحرب على بعضها في القطاع وسيظل، وهو أيضاً جزء لا ينفصل من صورة المتعهد أمام جمهور الرأي العام العربي في المنطقة، قبل أن يكون تعهداً أمام حكومة أو حكومات.
ورغم أن شيئاً رسمياً لم يصدر عن العاصمتين في حكاية الأزمة المكتومة، ولا يصدر بذلك شيء رسمي في الغالب، فإن الموضوع يخضع للمنطق الذي يقول إنه لا يوجد دخان من غير نار، وبالتالي فما يتناثر هنا وهناك لا بد أن له أساساً يستند إليه.
ولن يخرج هذا الأساس عن سلوك تل أبيب، لأنها الطرف الذي بدأ العمليات على القطاع، ولأن الواضح في مرحلة ما بعد وقف العمليات أنها ذهبت إلى وقفها مضطرة، وأن اضطرارها كان بفعل الضغط المصري مرة، وبفعل قوة ضربات «الجهاد» مرة ثانية، وفي المرتين لم تكن حكومة لبيد تملك سوى الذهاب إلى وقف العمليات، سواء كانت راضية عن وقفها أو غير راضية.
وتعرف إسرائيل أن التزام القاهرة تجاه القضية في فلسطين هو التزام وطني وقومي، ولأنه كذلك، فليس من الجائز أن يكون محل مساومة معها، ولا من الوارد أن يكون موضع تراجع من جانبها، ولا هو يحتمل أن تتلكأ فيه الدولة العبرية عن تعهداتها يوم الاتفاق على وقف العمليات.
وأما موضوع الجنود المصريين الذين تعرضوا للقتل قرب القدس في أجواء 1967، والذين قيل نقلاً عن صحف إسرائيلية إنهم تعرضوا للحرق، لا للغدر فقط، فأمرهم أمر آخر.
أمرهم أمر آخر لأن الصحافة المصرية لم تكن هي التي كشفت عن الموضوع، وإنما الصحافة الإسرائيلية والصحافيون الإسرائيليون هُم الذين بادروا وفعلوا، ولأن الكشف عنه قبل أسابيع قد أدى إلى ما يشبه الصدمة بين قطاعات الرأي العام في مصر، ومن يومها ينتظر هذا الرأي العام إجابات عن الأسئلة التي أثارها الموضوع ولا يزال ينتظر ويجب ألا يطول انتظاره.
وكان لبيد قد سارع بعد الكشف عن الأمر قد سارع إلى الاتصال بالرئيس السيسي، متعهداً بتشكيل لجنة للتحقيق تضع الحقيقة كلها أمام الحكومة المصرية. ولكنَّ وقتاً غير قصير قد مضى من دون أن نسمع شيئاً عن اللجنة، ولا عمّا إذا كانت بالفعل قد بدأت عملها، وما إذا كانت قد وصلت إلى ما يمكن أن تذيعه علينا في القاهرة.
وسوف يكون على الحكومة الإسرائيلية أن تدرك أن تعهد رئيسها ليس تعهداً أمام رأس الدولة المصرية فقط، ولكنه تعهد أمام المصريين الذين يعدّون الموضوع اختباراً آخر تدخله إسرائيل أمامهم، ويريدون أن يروا ماذا بالضبط ستكون نتيجة الاختبار، وماذا ستفعل حكومة لبيد فيما تعهد به في أثناء الاتصال؟!
لقد مضت أسابيع على الاتصال وعلى التعهد الذي أخذه رئيس الحكومة الإسرائيلية على نفسه، من دون أن يقال شيء عمّا تعهد به، وبغير أن يتلقى المصريون إجابات واضحة على تساؤلات كثيرة رافقت عملية الكشف عن قصة الجنود المقتولين.
والعلاقة بين القاهرة وتل أبيب محكومة في كل أحوالها بمعاهدة السلام الموقّعة بينهما في مارس (آذار) 1979. وقد حافظت العاصمتان على المعاهدة طوال هذه العقود من الزمان، لأن القاهرة ذهبت إلى السلام عن إيمان به وعن انحياز إليه، ولأن تل أبيب تعرف أن السلام الذي جاءت به المعاهدة وأسست له مصلحة لها، قبل أن يكون محققاً لصالح مشترك.
ولكن هذا السلام نفسه الذي وقّعت على معاهدته قبل أكثر من أربعين سنة ليس كلاماً على ورق، ولكنه ملزم لها بأن تعمل مع مصر بما يخدمه، وبما يقول إنه قناعة لديها، وإنه مستقر في يقينها، وإنه حاكم لسلوكها مع الطرف الآخر، ومن بين ذلك قضية الجنود التي طفت على السطح بلا مقدمات، ومن دون أن تكون القاهرة هي التي بادرت فكشفت عنها.
ولكن مشكلة إسرائيل ليست في أنها مقبلة على انتخابات برلمانية الشهر بعد المقبل، ولا مشكلتها أن هذه هي رابع أو خامس انتخابات تذهب إليها في حدود السنتين الماضيتين، ولا حتى مشكلتها أنها ذاهبة إلى انتخاباتها مضطرة، ولكن مشكلتها أنها كلما وجدت نفسها في الطريق إلى الانتخابات وظّفت أكثر من قضية مع جيرانها انتخابياً، وهذا الأمر إذا جلب لها بعض الاستقرار في الداخل، فإنه صار لعبة مكشوفة في الخارج، ولم يعد ينطلي على أحد ولا يدخل عقل أحد.
والمشكلة الكبرى أنها إذا جاز لها أن توظّف القضية في فلسطين انتخابياً كما فعلت من قبل مرات، سواء كان ذلك في غزة أو في القطاع، فلا يجوز أن توظّف قضية الجنود!