أعود إلى موضوع المتشبثين بالسلطة حول العالم، لأنه موضوع يثير الحيرة التي لا حد لها، ولأنه يبدو موضوعاً نفسياً في وجدان كل متشبث بالكرسي، أكثر منه موضوعاً ذا علاقة بالأبعاد المادية أياً كان نوعها.
إنهم ثلاثة بارزون في بلادهم، ولا يجمع بينهم إلا القتال بكل الأدوات الممكنة من أجل السلطة إذا كانوا فيها، أو في سبيل العودة لها إذا غادروها!
ورغم أن لهم سنين على هذه الوضعية، فإن أشياء طرأت على مستوى كل واحد فيهم، وبما يباعد بينهم وبين مقعد السلطة الساحر، ومع ذلك، فلم يزدهم ما طرأ في طريق الإبعاد إلا تشبثاً بالمقعد إلى آخر نَفَس!
فالمحكمة في ولاية كولورادو قضت بعدم أهلية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب لخوض انتخابات الولاية التمهيدية المؤدية إلى خوض السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض، وكان الظن أن هذا سوف يجعله يهدأ قليلاً، وأنه سوف ينصرف إلى حال سبيله، وأنه سوف ينشغل بأعماله، وعقاراته، وملياراته التي سبقت مجيئه إلى السلطة في 2016.
ولكن العكس هو الذي حصل، فازداد ترمب تحدياً للقضاء وأحكامه، وتمسك بأن يقطع الشوط حتى آخره، وراح يحشد فريق المحامين أكثر وأكثر، وبدا كأن العودة إلى البيت الأبيض هي بالنسبة إليه كالحياة نفسها.
وما كاد يفيق من حكم القضاء في كولورادو، حتى صدر حكم آخر في الاتجاه نفسه من قضاء ولاية ماين، وكلاهما استند إلى التعديل الرابع عشر في الدستور الأميركي، وهو تعديل يمنع الذين شاركوا في أعمال تمرد من تولي وظائف في الدولة. ولأن ترمب متهم بقيادة اقتحام أنصاره مبنى الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، فالتعديل ينطبق عليه، إلا أن يحصل على حكم يبرئه من التهمة بشكل نهائي لا نقض فيه.
ومع ذلك فالحكمان قد زاداه إصراراً على السعي في طريق البيت الأبيض، وبأشد ربما مما كان يسعى إليه حين خاض السباق للمرة الأولى.
ولا يختلف حال عمران خان في باكستان عن حال ترمب في بلاد العم سام، لأن خان الذي يقضي حياته في السجن منذ أغسطس (آب) 2023، لا يتوقف لحظة عن الجري في اتجاه مبنى رئاسة الحكومة، رغم أنه خرج منه إلى السجن الذي يوجد فيه إلى هذه اللحظة.
إن عمران خان نجم في لعبة الكريكيت، وهو ليس نجماً في باكستان وحدها وإنما نجوميته تملأ العالم، وبالطبع فالنجومية سابقة عنده على العمل بالسياسة وعلى رئاسة الحكومة، ولكنه منذ أن ذاق حلاوة السلطة نسي الكريكيت وأيامها، ولم يعد يرى دنياه إلا في رئاسة الحكومة، وكاد يفقد حياته نفسها خلال سعيه المحموم للعودة، ولكن محاولة الاغتيال التي استهدفته زادته إقبالاً على ما يفعله، وملأته بالرغبة في أن يعود إلى حيث كان في السلطة!
وقد أدى هذا إلى حرمانه من الترشح لانتخابات البرلمان التي ستجري الشهر المقبل، وأدى إلى حرمان غالبية القيادات في حزب «حركة إنصاف» الذي يتزعمه، فلم يُضعف ذلك من عزيمته، ولا أطفأ رغبته التي تتملكه!
أما ثالثهم فهو بنيامين نتنياهو الذي يتولى الحكومة في تل أبيب للمرة الخامسة، والذي بدأ طريق رئاستها في 1996، والذي كان أصغر رئيس حكومة في إسرائيل يوم جاء للمرة الأولى، ومع ذلك، فإنه لم يشبع ولم يقنع، ولا يزال يعمل لتكون هناك مرة سادسة وعاشرة، فإذا لم تكن هناك مرة أخرى فليس أقل من أن يبقى طويلاً هذه المرة!
ولأن هذا هو حاله، فإنه لا يتردد في فعل أي شيء يطيل بقاءه على الكرسي، وليست الحرب الوحشية على قطاع غزة إلا هذا الشيء، ولا يتردد أيضاً في إزاحة أي شخص يمكن أن يقف عقبة في طريق هذا البقاء، وعندما أزاح إيلي كوهين، وزير خارجيته، من وزارة الخارجية، قبل أيام عدة، لم يكن ذلك إلا لأن كوهين تكلم عن مسؤولية كاملة للحكومة عن هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الذي بسببه أطلق نتنياهو وحشيته على الأطفال والنساء والمدنيين في القطاع.
لقد ذهب كوهين ضحية الرغبة المتعطشة لدى رئيس حكومته في السلطة، وقد حدث هذا رغم أن وزير الخارجية المُقال كان ملكياً في الحكومة أكثر من الملك، وكان يزايد على تشدد وتطرف نتنياهو ذاته، ولكن التعطش إلى السلطة الذي يجرف كل ما يجده أمامه على الطريق!
راجع سجل الثلاثة من ترمب، إلى خان، إلى نتنياهو، وستجدهم جاوزوا السبعين من العمر، وستجد أنهم متحققون قبل السلطة في ميادين مختلفة، وستجد أن لدى كل واحد منهم ما يمكن جداً أن يغنيه عن مغانم السلطة إذا تطلعنا إليها بالنسبة إليهم من هذه الزاوية... ولكنهم يتصرفون في أماكنهم وكأن السلطة بالنسبة إلى الثلاثة هي مُعادل الحياة ذاتها!
لقد قيل دائماً إن «اثنين لا يشبعان... طالب علم وطالب مال»، ولو شئنا لأضفنا إليهما طالب السلطة، فالحالات الثلاث التي بين أيدينا تقول هذا بأبلغ بيان، وتكاد تقدم طالب السلطة على طالب العلم وطالب المال معاً، ولا معنى للحالات الثلاث التي هي مجرد أمثلة، إلا أن في كرسي السلطة سراً لا يتجلى إلا للجالس عليه، وإلا أن هذا السر لا يقوى على مقاومته إلا أولو العزم من الرجال.