دعت الرياض إلى ثلاث قمم في يومين، فكانت الحصيلة أن ما يشبه «برنامج العمل» قد جرى وضعه والتوافق عليه، ومن الطبيعي أن الاشتغال عليه والانشغال به سوف يملأ الأفق، منذ اللحظة التي اختتمت فيها القمم الثلاث أعمالها، إلى أن تضع الحرب في قطاع غزة أوزارها، ثم إلى ما بعد أن توضع هذه الأوزار.
صحيح أن إحدى القمم الثلاث كانت سعودية - أفريقية، وكان موضوعها المحدد مسبقاً ذا طابع اقتصادي خالص، ولكنها وهي تنعقد في هذه الأجواء من حولنا، لم تستطع أن تغض البصر عمَّا يتعرض له المدنيون الأبرياء في قطاع غزة، لأن ما يتعرضون له قد خرج من نطاقه الفلسطيني إلى النطاق الإنساني العام الذي يألم له كل إنسان.
وقد قصدت الحكومة السعودية وهي تدعو إلى القمة العربية الإسلامية المشتركة بالذات، أن تمارس مسؤوليتها بحكم رئاستها مجلس الجامعة العربية الحالي على مستوى القمة، فهذه الرئاسة منعقدة لها منذ القمة العربية العادية الماضية التي انعقدت في جدة، إلى أن تنعقد القمة العربية المقبلة في البحرين.
والأمر نفسه على مستوى منظمة التعاون الإسلامي التي انعقدت القمة الإسلامية من خلالها، والتي تضم 54 دولة في عضويتها، وهي تمارس مهمتها من مقرها في جدة.
ورغم أن البيان الختامي للقمة المشتركة تضمن 31 بنداً يمكن العمل عليها منذ اللحظة، فإنها ليست كلها سواءً من حيث إمكانية تحققها على الأرض، فبعضها يمكن أن يتحقق في وقت قريب، والبعض الآخر يحتاج بطبيعته إلى جهد يتواصل على المدى البعيد.
وليس سراً أن ثلاث دول عربية هي العراق والجزائر وتونس، كانت لها تحفظات على القرار الصادر عن الجامعة والمنظمة في نهاية القمة المشتركة، كما أن دولة إسلامية هي إيران كانت لها تحفظات هي الأخرى، وهذا طبيعي لأننا نتكلم عن ثلاث دول عربية من بين 22 دولة أعضاء في الجامعة، ولأننا نتحدث عن دولة إسلامية من بين 54 دولة أعضاء في المنظمة، وبالتالي، فالأغلبية الكبيرة متحققة في الحالتين العربية والإسلامية، ويظل التوافق هو المطلوب لا التطابق.
ولا شيء يمكن عمله في حالة كهذه سوى العمل على ما هو محل توافق والبناء عليه، ثم تفادي ما هو محل خلاف أو اختلاف.
وإذا كان هناك شيء يمكن عمله أولاً، لا ثانياً، فهو وقف إطلاق النار الدائم في غزة، لأنه هو الإجراء الذي يمكن أن يقود إلى ما سواه، ولأنه لا يمكن عمل شيء قبله، ولذلك، فليتوقف إطلاق النار في المقام الأول، وما عداه سوف يأتي لاحقاً له، وسوف يتكشف ميدان القتال عند توقف الحرب عن أشياء كثيرة، وهي أشياء سوف تتوالى تجلياتها أمامنا في ما بعد اللحظة التي يتوقف فيها صوت المدافع.
ولكن السؤال هو: كيف يمكن أن نصل إلى وقف إطلاق النار، وهل هناك إجراء يسبق ذلك ويؤدي إلى ما اجتمعت القمتان العربية والإسلامية للوصول إليه؟
الإجابة هي: نعم بالتأكيد، وهذا الإجراء السابق على وقف إطلاق النار والمؤدي إليه، هو السعي بسرعة في مشوار إطلاق الرهائن الإسرائيليين والمعتقلين الفلسطينيين إلى آخره، لا لشيء، إلا لأن يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، قال في الثاني عشر من هذا الشهر، إنه لا بد من إطلاق رهائنهم بأي طريقة، سواء كانت هذه الطريقة هي القوة، على حد تعبيره، أم كانت هي المفاوضات.
هنا سوف يكون علينا أن نلاحظ أن غالانت أخذ خطوة إلى الوراء، ولم يعد يعتمد القوة طريقاً وحيداً إلى إطلاق الرهائن، وأنه يضع المفاوضات بديلاً للقوة، وهذا ما لا بد أن تأخذه حركة «حماس» بجدية وعملية معاً، وأن تكون أكثر واقعية وهي تمضي في عملية التفاوض مع الجانب الإسرائيلي، لأن الهدف ليس الحرب ولا القتال، ولكن الهدف هو الوصول إلى تسوية مقبولة من الطرفين، سواء كانت تسوية خاصة بالرهائن والمعتقلين كمرحلة أولى، أم كانت تسوية عادلة للقضية كلها في مرحلة تالية.
وما يقوله غالانت ليس مطلبه هو في الحقيقة، ولكنّه مطلب أول لدى بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي لا يعرف بأي وجه يمكن أن يتكلم مع أُسر الرهائن، ولا يعرف ما مصيره حين تذهب الحرب إلى نهايتها.
بالنسبة إليه تمثل عملية إطلاق الرهائن قضية كبرى نفسياً وسياسياً، فلم يسبق له أن وجد نفسه في مثل هذا المأزق، ومأزقه أنه يرى نفسه منهزماً بامتياز ما لم يرجع بالرهائن، ويراه الإسرائيليون كذلك، ومن قبل كان يتصرف وهو يشكل حكومته الخامسة في ديسمبر (كانون الأول) من السنة الماضية تصرف المنتصر، ولم يكن يخرج من رئاسة الحكومة إلا ليعود إليها، وقد كان يهيئ نفسه لا شك لحكومة سادسة، فإذا به يرى نهايته السياسية أمام عينيه، وإذا به يحاول تفاديها بإطالة أمد الحرب.
وحتى عند الانتهاء من إطلاق الرهائن، سوف يكون أمامه حاجز آخر سيكون عليه أن يعبره، وهذا الحاجز هو مسؤوليته عن هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الذي فاجأه فأفقده توازنه، وجعله أقرب ما يكون إلى ذئب جريح. ولكن هذه مسألة تخصه، وسوف يكون عليه أن يقف بموجبها أمام لجنة تحقيق تشبه تلك التي وقفت أمامها غولدا مائير في 1973.
لن تستطيع جامعة الدول أن تصفق وحدها وهي تشتغل على «برنامج عمل» القمة المشتركة، ولا منظمة التعاون ستستطيع وهي تشتغل مع الجامعة، لأن اليد الأخرى هي يد «حماس» التي سيكون عليها أن تفكر بشكل عملي وأن تسعف الجامعة والمنظمة.