بدت فرنسا مشغولة، وربما لا تزال، بإطفاء النار التي اشتعلت في أطراف ثيابها، وكان مقتل الشاب نائل المرزوقي على يد شرطي هو الذي أشعل النار في أكثر من مكان.
ومن اسم نائل تخمّن أنه عربي، وأنه من الجاليات التي هاجرت مبكراً ثم استقرت هناك، ولم تكن أصوله الجزائرية سراً لأن ذلك قيل منذ اللحظة الأولى للحادث، ثم من بعدها توارى الحديث عن أصوله، وبقيت النار التي كانت دائرتها تتسع كلما طلع عليها نهار.
ولم يكن الغضب الذي رافق مقتل المرزوقي جديداً، فلقد تبدّى من قبل مرات، وفي كل مرة كان السبب يختلف، ولكن النتيجة كانت واحدة، وكانت الحصيلة مشتركة، وكانت الحكومة في عاصمة النور تعود من عملية الإطفاء في كل مرة وهي مرهقة للغاية.
وليس من الصعب على المتابع أن يمد خيطاً يربط به بين موضوع المرزوقي في مكانه هناك على الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط، وبين موضوع آخر كان هنا في بلد المليون شهيد على الشاطئ الجنوبي للمتوسط. كان الموضوع هنا يبدو من حيث توقيته كأنه رد جزائري مباشر على قضية الشاب القتيل، ولكنه في حقيقته لم يكن كذلك، وإنما كان له سياق آخر يدور فيه.
كانت وزارة التعليم العالي الجزائرية قد أرسلت خطاباً إلى رؤساء الجامعات، وكان الخطاب ينبّه كل جامعة إلى ضرورة الاستعداد لبدء تدريس اللغة الإنجليزية بوصفها لغة ثانية في البلاد بدلاً من اللغة الفرنسية، وكان الموعد المحدد لذلك هو بداية العام الدراسي المقبل الذي تقف الجامعات على أبوابه، وكانت الوزارة تشدد فيما تطلبه لتلتفت الجامعات إلى أن الأمر جاد تماماً.
وإذا كان الأمر كذلك فمن السهل أن يمتد الخيط الرابط بين شاب جزائري قضى نحبه هناك، وبين خطاب هذا هو محتواه في الجزائر هنا، والربط بينهما سوف يكون له ما يبرره، غير أن قضية استبدال اللغة الإنجليزية باللغة الفرنسية قضية قديمة وليست وليدة اللحظة.
ولو عدنا إلى خريف السنة الماضية فسوف نقع على البدايات هناك، وسوف تكون إحدى هذه البدايات يوم انعقدت القمة العربية الحادية والثلاثين في الجزائر العاصمة، فهي قمة كانت ترفع شعار «لمّ الشمل»، وكانت قمة جدة من بعدها على موعد لالتقاط الشعار والذهاب به إلى مدى أبعد، ولكن هذه تبقى قضية أخرى لها تفاصيلها.
كان الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 هو موعد التئام القمة، ولكنه كان موعداً لحدث آخر لا يقل أهمية عن القمة، وكان الحدث هو إصدار ورقة نقدية جزائرية جديدة قيمتها 2000 دينار، ولم تكن الأهمية في إصدار الورقة في حد ذاته ولا حتى في قيمتها الكبيرة، ولكن الأهمية كانت في أن بيانات الورقة كُتبت عليها باللغة العربية، ثم للمرة الأولى باللغة الإنجليزية بدلاً من الفرنسية!
من قبل كانت اللغتان العربية والفرنسية متلازمتين طول الوقت على الأوراق النقدية الجزائرية، ولكن هذه كانت المرة الأولى التي تزيح فيها الإنجليزية لغة موليير وتجلس مكانها، ولم تشأ إليزابيث مور أوبين، السفيرة الأميركية في الجزائر، أن تفوّت هذه الفرصة فغرّدت يومها تقول ما معناه، إن بلادها تدعم الحكومة الجزائرية في توسيع نطاق استخدام لغة شكسبير.
وكانت عملية إطلاق الورقة النقدية الجديدة قد جاءت في ذكرى مرور 68 عاماً على انطلاق الشرارة الأولى للثورة الجزائرية في الأول من نوفمبر 1954. ولم يكن المعنى في اختيار هذا اليوم لإطلاق الورقة الجديدة خافياً عن كل مراقب للأحوال بين فرنسا والجزائر.
وإذا كانت السفيرة الأميركية قد أسعدها أن يتوسع نطاق لغة شكسبير في الجزائر، فالمؤكد أن ذلك لم يُسعد السفير الفرنسي في المقابل، ولا أسعد حكومته في باريس أيضاً، فإذا أضفنا ذلك إلى حركة نشطة لتعريب المراسلات الداخلية والوثائق في الجزائر، وإذا عرفنا أن هذه الحركة تمضي في طريقها في هدوء، كان لنا أن نرى ملامح الصورة أمامنا مكتملة تقريباً.
ولم تشأ المعارضة الفرنسية أن تجعل هذا كله يمر، فراحت تتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفشل سياسته مع الجزائريين.
وما تقوله المعارضة صحيح في الكثير من جوانبه، لأن باريس لا تريد أن تدرك وهي تتعامل مع الجزائر في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، أن فترة الاحتلال الفرنسي للبلاد كانت في قرنين مضيا وانقضيا، وأن ما كان يصلح وقتها لا محل له من الإعراب اليوم، وأن العلاقة بين الطرفين في حاجة إلى أن تكون علاقة ندٍّ مع ندٍّ على طاولة واحدة، وأن المصالح المتبادلة هي التي لا بد أن تكون حاكمة، وأن ما عدا ذلك يخرج بالعلاقة بين البلدين ليس فقط عن سياقها الذي يجب أن تجري فيه، وإنما يخرج بها عن زمانها نفسه الذي عليها أن تقطع خطواتها فيه.
ليس من صالح فرنسا أن تخسر مناطق نفوذها التقليدي في أفريقيا، وهي ليست في حاجة إلى شيء قدر حاجتها إلى أن تتخلص من نظارة الماضي وهي تتطلع إلى الأمور في القارة السمراء.