بقلم: سليمان جودة
مساكين هؤلاء الأكراد الذين يعيشون موزعين على أربع دول في المنطقة، بدءاً من سوريا، ومروراً بالعراق وإيران، ثم انتهاءً بتركيا.
عندما زهقت الحكومة التركية من مطاردة الأكراد، فكرت في التقارب مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، لعل هذا التقارب يصل إلى طريقة تحتوي الخطر الكردي الذي تراه حكومة إردوغان في أنقرة، ويجعلها لا تعرف طعماً للنوم ولا للراحة.
والمفروض أن لقاءً سوف يتم في القريب بين إردوغان والأسد لهذا الغرض، ولا بد أن معه أغراضاً أخرى بالتأكيد، ولكنه إذا تم فسوف يأتي رغم ما نتابعه من عداء ظلت تركيا تظهره تجاه سوريا طوال السنين الماضية ولا تخفيه، ولكن السياسة الواقعية التي يتصرف بها الرئيس التركي طوال الفترة الماضية مع السوريين ومع غيرهم في المنطقة، تجعل من رغبته في التقارب مع السوريين مسألة في سياقها.
ولكن الأسد في المقابل لما رأى حرص الأتراك على التقارب، راح من جانبه يتدلل ويضع شروطه، ومن بين هذه الشروط أن تخرج تركيا من الأراضي السورية تماماً، وأن تنهي احتلالها لكل أرض سورية دخلتها في غمرة ما يسمى الربيع العربي.
والغريب أن التقارير الصحافية المنشورة تنقل عن مسؤولين أتراك قولهم، إن الجيش التركي لن يغادر مواقعه في الشمال السوري تحت كل الظروف. وهذا معناه أن اللقاء المرتقب يمكن ألا يتم، أو أنه سوف يتأخر ويتأجل إلى أن تقبل دمشق بأن ينعقد.
وعندما استشعر الأكراد خطورة ما تسعى تركيا إليه، قرروا فيما يبدو أن يسبقوها، وكان من علامات ذلك أننا قرأنا عن وفد كردي زار العاصمة السورية، وأنه تحدث في إحياء مذكرة التفاهم التي جرى توقيعها بين الطرفين في 2019، وكان توقيعها عندما قرر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب سحب قوات بلاده من سوريا. وكانت مذكرة التفاهم تقضي بنشر قوات الجيش السوري شرق نهر الفرات.
ولا هدف من زيارة الوفد إلى دمشق سوى أن يسارع الأكراد إلى قطع الطريق على تركيا، وسوف يفعلون ذلك ما استطاعوا إليه سبيلا، وسوف يكون الهدف أن يكون زمام أمرهم مع الحكومة السورية في أيديهم لا في أيدي الأتراك.
ولأن قيام دولة كردية تضم الأكراد في الدول الأربع قضية غير ممكنة، بل تكاد تكون مستحيلة، فلا حل يبدو أمامهم غير أن يتعايشوا مع الحياه التي يجدونها، ولا سبيل سوى أن يكونوا جزءاً طبيعياً من الأرض التي يعيشون فوقها، ولا طريقة سوى أن يؤمنوا بأن وطنهم هو الدولة التي يقيمون تحت سمائها.
إنهم يدفعون ثمن ظلم الجغرافيا التي وزعتهم على الخريطة بهذا الشكل، وليس في مقدورهم تغيير أحكام الجغرافيا القاسية، وقد حاولوا مراراً ولم يستطيعوا، لأن الأحكام التي تقضي بها محكمة الجغرافيا تأتي في الغالب نهائية قاطعة لا نقض فيها ولا إبرام.
ونحن نتحدث دائماً عن قضية تتفرق دماؤها بين القبائل، ومع قليل من التصرف فيما نقوله في هذا المعنى، نستطيع أن نقول إن الأكراد يكتشفون كل يوم، أن حياتهم لا دماءهم هي التي تفرقت بين الدول، وأن ما يجدونه هو من نوع الشيء المكتوب على الجبين في حياة البشر.
وفي 1946 كانت جمهورية مهاباد قد قامت للكرد، وكانت قد استمرت 11 شهراً لا أكثر، ولكن لعنة الجغرافيا عصفت بها في النهاية، وعاد الذين أقاموها إلى المربع واحد، لأن الجغرافيا قد وقفت في طريقها، ولا يزال غضب الجغرافيا عنواناً من العناوين في هذا الملف.
وتستطيع الدول التي يعيش الأكراد على أرضها، أن تجد دواءً لهذا الصداع الذي لا يتوقف في رأسها وفي رأس الأكراد معاً، وهذا العلاج هو ما يسمى المواطنة، وهو دواء عصري ساحر وفعال، ولا يزال مفعوله قوياً في معالجة قضايا الأقليات في العموم.
ومع كراهيتي لمفهوم الأقليات فإنني أستخدمه مضطراً، وأتمنى لو أجد بديلاً له فلا أعود إليه، لأن النظر إلى الأكراد في الدول الأربع بهذا المفهوم ليس هو النظر المناسب، لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الإنساني، ولو اعتمدت كل دولة منها مبدأ المواطنة بمعناه الحقيقي، فلن تكون هناك مشكلة مع الأكراد، ولا مع غيرهم ممن يعيشون على الأرض الواحدة.
والمواطنة هي التي تجعل من الكردي في العراق عراقياً قبل أن يكون كردياً، وتجعل ما عليه من واجبات هو نفسه ما على كل عراقي آخر سواه، وكذلك الأمر مع ما له من حقوق، ولو ساد هذا المبدأ ما كان مسعود بارزاني قد دعا إلى استفتاء قبل سنوات، وكان قد أعفى نفسه ومعه العراق كله من الحرج السياسي، عندما جاءت حصيلة الاستفتاء على غير ما توقع وانتظر.
ولا يزال دواء المواطنة متاحاً في الأسواق، وليس أقوى منه في مفعوله المضمون، ولا تعرف لماذا نستشعر في الكثير من الحالات أنه يواجه شحاً في الأسواق، مع أنه متوافر لمن يشاء من الحكومات، ومع أن صلاحيته دائمة، ومستمرة، ولا انتهاء لها.
ولكن الشح الذي يعانيه هو الذي ضاعف من وطأة ظلم الجغرافيا، وهو الذي حول ظلمها إلى حكم بات، أو ما يشبه ذلك، وهو الذي جعل حكمها وكأنه لعنة تلاحق جماعات كثيرة حول العالم، فوجدت نفسها أسيرة ظلم الخريطة، وحكمها، ثم لعنتها.
ولو جربت أن تتطلع إلى خريطة الأرض، فسوف ترى كيف أن لعنة الجغرافيا لم تتوقف عند حدود الجماعات فقط، ولكنها امتدت إلى شعوب بكاملها، وأصابت دولاً بكل كيانها، فجعلت منها دولاً حبيسة لا تطل على محيط، ولا تقع على بحر.
ومن هذه الدول أفغانستان على سبيل المثال، فلا شاطئ لها على المحيط الهندي في جنوبها، ولا على بحر قزوين إلى الشمال منها، ولا بد أنها ترسل بصرها إليهما مع كثير من الحسرة، ثم تحسد الدول المحيطة بها والقريبة منها، وهي ترى المحيط ومعه البحر بالعين المجردة.
ولا يختلف حال إثيوبيا عن حال بلاد الأفغان، لأن الإثيوبيين لا سبيل لهم إلى البحر الأحمر في اتجاه الشرق، إلا من خلال إريتريا، رغم أن بينهم وبين البحر رمية حجر، ولا طريق لهم إلى المحيط الهندي في الجنوب إلا عبر الصومال، التي ابتسمت لها الجغرافيا فمنحتها أطول الشواطئ في القارة السمراء، ولكن الحياة نفسها لم تبتسم لها في المقابل... وهذه قصة أخرى طويلة.
وفي الحالتين تشعر أفغانستان بأنها مخنوقة، ولا يغادر الشعور نفسه بلاد الإمبراطور هيلا سلاسي، ولكنها الجغرافيا التي تضحك لدول وجماعات، وتغضب على دول وجماعات، ولا تقبل النقض في أحكامها النهائية هذه ولا الاستئناف.
وإذا كان في مقدور الجغرافيا أن تتصالح مع الجماعات بدواء المواطنة، فخصامها مع العواصم من نوعية كابل وأديس أبابا لا دواء له ولا صلح فيه، وفي العادة يعيش الطرفان على خصام مدى الحياة.
ولكن في حالة الأكراد بالذات، نكتشف أنهم كانوا على موعد مع الخطأ من جانبهم في الحسابات، أكثر مما كانوا على موعد مع غضب الخريطة، ولا بد أن في الحصيلة التي جاء بها استفتاء مسعود بارزاني أقوى دليل.