بقلم - سليمان جودة
لا نهاية لعدد المرات التي لفتت فيها المملكة العربية السعودية انتباه المجتمع الدولي إلى خطورة ما تمارسه جماعة الحوثي المدعومة من إيران. وما أكثر ما نبهت السعودية وحذرت وكررت تحذيراتها، لعل هذا المجتمع يتيقظ وينتبه إلى ما لا يزال الحوثي يمارسه.
وفي كل مرة سابقة، كان المجتمع الدولي بعواصمه الكبرى يستنكر ما يمارسه الحوثي، وكان يشجب ما يفعله الحوثي، وكان يُدين ما يرتكبه الحوثي، ولكن ثبت بالتجربة الحية على الأرض، أن الاستنكار رغم تعبيره عن موقف مساند للرياض في مواجهة عبث الحوثي، ورغم أنه موقف له اعتباره فيما بين الدول، فإنه وحده لا يكفي، ولا يؤثر بطريقة عملية في الواقع. وكذلك كان الحال مع الإدانة، ومع الشجب، ثم مع كل أصناف الرفض لما يصر الحوثي على المضي فيه.
وكانت السعودية تنبه في كل المرات إلى أن الاستنكار والشجب والإدانة مواقف جيدة في حد ذاتها من دون شك، ولكن المشكلة كانت دائماً في أن الجماعة الحوثية لا تجدي معها إدانة، ولا يردعها استنكار، ولا يكبح جماحها شجب، وبالتالي، فهي في حاجة إلى شيء آخر، وفي حاجة إلى لغة مختلفة تفهمها، بخلاف لغة الشجب والاستنكار والإدانة التي لا تفهمها!
وهذا بالضبط ما لفتت الحكومة السعودية كل عاصمة كبرى إليه، في بيانها الذي صدر عن وزارة الخارجية هذا الأسبوع. وقد صدر البيان بعد أن استهدف الحوثي عدداً من المنشآت المدنية السعودية في ست مدن بالطائرات المُسيَّرة، ومعها صاروخ «كروز» إيراني الصنع. فهو استهداف انعكس بالسلب على قدرة منشآت بترولية على الاستمرار في أداء عملها بالكفاءة المطلوبة أو كاد، وقد حدث هذا بالفعل في مرافق شركة ينبع للتكرير الواقعة غرب البلاد.
وعندما يكون الاستهداف في حق ست مدن معاً، وعندما يؤدي إلى خفض الإنتاج في إحدى الشركات، فهو استهداف تجاوز حدود استهدافات سابقة، وبلغ حداً لم يحدث أن بلغه من قبل.
صحيح أن وزارة الطاقة السعودية عوضت الانخفاض من المخزون، ولكن استهدافاً كهذا كان لا بد معه من بيان يضع ما جرى في مكانه الذي يجب أن يوضع فيه.
وأمام وضع ينذر بأشد الخطر كهذا، لم تجد الرياض مفراً من الإعلان بشكل صريح، عن أنها تخلي مسؤوليتها عن أي نقص في إمدادات المواد البترولية للأسواق العالمية، وقالت إنها تدعو العالم إلى الوعي بخطورة استمرار إيران في مد الحوثي بالصواريخ الباليستية وبالطائرات المُسيَّرة، والتي من دونها لم يكن ليستطيع تنفيذ الهجوم الأخير على عديد من المنشآت.
هذه لغة في غاية القوة والصراحة لمن شاء في عواصم العالم الكبرى أن يفهم، أو أن يستوعب، أو أن يدرك أن عواقب ممارسات الجماعة الحوثية في هذه المرة تختلف عن عواقبها في كل المرات السابقة، وأن تداعيات ما تمضي فيه هذه الجماعة مرشحة إلى أن تصيب وتطول كل عاصمة كبرى في مكانها، وخصوصاً إذا كانت من بين العواصم التي تنتظر وصول إمدادات المواد البترولية القادمة من السعودية.
وليس سراً أن اشتداد الاستهداف من جانب الحوثي في هذا التوقيت بالذات، إنما يتزامن بصورة واضحة مع ما يقال غربياً وأميركياً عن أن المفاوضات بين الغرب وبين حكومة المرشد في العاصمة النمساوية فيينا، تدخل مرحلتها الأخيرة أو تكاد تدخلها!
ومن المفهوم بالطبع أن طهران تسعى إلى تقوية موقفها على طاولة التفاوض حول برنامجها النووي، وأن هذه الهجمة الحوثية العبثية على المنشآت المدنية السعودية، ومن بينها المنشآت البترولية على وجه التحديد، ليست سوى رغبة في امتلاك ورقة تفاوضية تريد إيران توظيفها لصالحها على الطاولة، وتريد التلويح بها في التفاوض مع الغرب عند اللزوم.
وفي سبيل تقوية موقفها، فإنها لا تبالي بما تدوس عليه في عرض الطريق إلى تحقيق هذا الهدف، وربما يكون من سوء حظها أنها تدوس هذه المرة من خلال الجماعة المدعومة منها على مصالح عالمية، ومصائر دولية، وخطوط إمداد طاقة دولية، ثم لا يهمها مدى الضرر الواقع من جانب الجماعة المدعومة منها على مصالح العالم الاقتصادية على وجه الخصوص!
ولا تنفصل طائرات الحوثي المُسيَّرة التي تنطلق من أرض اليمن، عن الصواريخ التي استهدفت القنصلية الأميركية في أربيل العراقية قبل أيام! ففي الحالتين، كانت حكومة خامنئي تطلق صواريخها في اتجاه الأراضي العراقية، وكانت تطلق طائرات الحوثي المُسيَّرة في اتجاه الأراضي السعودية، وكانت ترسل من خلال هذه الصواريخ والمُسيَّرات «رسالة» إلى الأطراف التي تجلس أمامها لتفاوضها على الطاولة، وكانت الرسالة تقول إن في يديها أوراقاً مؤثرة في حركة الحياه في المنطقة، وإن هذا هو الدليل!
فإذا وضعنا هذا كله في سياقه العالمي، من حيث مجيئه في وقت الحرب الروسية على أوكرانيا، ومن حيث التداعيات التي نراها لهذه الحرب على إمدادات المواد البترولية وأسعارها، يتبين لنا إلى أي مدى يمكن أن تصل عواقب صواريخ الحوثي؛ ليس بالطبع في حدود السعودية وحدها، ولا حتى في نطاق المنطقة على اتساعها، ولكن على امتداد خريطة العالم!
ومن خلال سطور البيان السعودي عن هذه الهجمات الأخيرة العابثة، سوف يشعر كل قارئ لها بأن الرياض قد فاض بها الكيل، وأنها تقول عبر سطوره بما لا يقبل أي غموض، إنها إذا كانت قد تلقت هجمات الحوثي من قبل، وتعاملت معها من خلال نظامها الدفاعي، فإن هذا النظام قادر على التعامل مع أي هجمات فيما يخص السعودية وأرضها وأمنها في المستقبل، غير أنها في هذه المرة لا تستطيع إلا أن تصارح العالم بحدود ما يمكن أن يواجهه هو من جراء ما جرى وما قد يجري ويتكرر، من حيث استهداف منشآت بترولية، ومن حيث تأثير ذلك على الوتيرة الطبيعية للإمدادات.
وقوة البيان أنه - أولاً - يضع كل طرف دولي أمام مسؤوليته، حتى يحترس منذ وقت مبكر، وحتى لا يجد نفسه فجأة إزاء وضع لا تستطيع فيه إمدادات الطاقة الوصول إليه، وحتى يتصرف بما يفرضه عليه واجب المسؤولية تجاه تأمين إمدادات الطاقة في العالم. وقوة البيان - ثانياً - أنه يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، فلا يقول عن جماعة الحوثي إنها جماعة كذا ويسكت، ولكنه يُلحقها على الفور بالحكومة الإيرانية التي تمدها بما في يديها من الصواريخ والمُسيَّرات.
هذا بيان فيه إبراء ذمة واضح بما يكفي من السعودية، ولم يكن في مقدور أي دولة في عالمنا المضطرب أن تقول بخلاف ما في البيان، إذا ما وجدت نفسها في مكان السعودية.
وإذا كانت حكومة خادم الحرمين الشريفين قد أخلت مسؤوليتها تجاه ما حدث وما يمكن أن يحدث على المستوى نفسه في مرات قادمة، فهي قد مارست أعلى درجات المسؤولية الدولية، وليس على الذين يخاطبهم البيان سوى أن يمارسوا مسؤوليتهم أيضاً، وإلا فإن العواقب قد حددها بيان إبراء الذمة، ووضعها في إطار بارز يراه كل ذي عينين، وهي عواقب بادرت السعودية فقالت إنها ستكون بريئة منها.
إن العالم لا يزال يتطلع إلى جماعة الحوثي بعين واحدة، ولو أنه تطلع بعينين إلى خطورة ما تمارسه على مصالحه في المنطقة، فسوف يرى الجماعة مع إيران في مشهد واحد، وسوف يكون عليه أن يتعامل مع الأصل قبل أن يشجب ممارسات الفرع!