بقلم - سليمان جودة
يعرف المشتغلون في مهنة الصحافة أن الصورة المنشورة عن لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كمحاولة فرنسية أوروبية أولى لإبعاد حشود بوتين عن حدوده مع أوكرانيا، هي صورة من نوع الصور الصحافية، التي يراد بها أن تقول ما لا تقوله الكلمات!
ذلك أن من بين تقاليد هذه المهنة، أن أي صحيفة إذا رغبت في أن تعبِّر عن خلاف سياسي بين مسؤولين سياسيين التقيا، من دون أن تنجرف إلى قول ذلك صراحة، فليس أمامها سوى أن تنشر صورتيهما ظهراً لظهر، من دون أن تكون في حاجة بعد ذلك إلى أن تجهد نفسها في الإفصاح عن شيء محدد، أو في الذهاب المباشر إلى شرح شيء معين بالتصريح بديلاً عن التلميح.
والصورة من هذا النوع لا يلاحظها أي قارئ طبعاً، ولكنها تستوقف القارئ المتدرب إذا جاز التعبير، وتستلفت القارئ الذي لا يتوقف عند حدود ظاهر الأشياء، وتستمهل القارئ صاحب العين اللاقطة التي لا يتمتع بها سواه من القراء!
وكثيراً ما نشرت الصحافة صوراً «ظهرها لظهر بعض»، من دون أن يكون في المسألة أي سهو ممن نشرها ومررها وأقرها، وإنما تنشرها الصحيفة في مناسبات مختلفة حول العالم، وهي قاصدة أن تكشف من خلالها عما لا يمكنها الكشف عنه بالكلمة المباشرة، أو حتى غير المباشرة.
ولكن صورة بوتين مع ماكرون سوف تظل -عندما تخضع للدراسة فيما بعد- مثالاً للصورة التي تقول الكثير جداً، ومثالاً للصورة يتوقف أمامها القارئ وهو يتساءل: ماذا بالضبط ألجأ الرئيسين إلى أن يجلسا معاً على هذا المنظر غير المسبوق في دنيا السياسة والساسة؟!
كانت الطاولة بينهما ممتدة بأكثر من اللازم، وكان كل طرف منهما يستقر على أحد رأسيها، وكانت اللقطة التي اعتمدتها الرئاسة الروسية للنشر قد جرى التقاطها من زاوية محددة. فما قيل عن طول الطاولة بينهما إنه كان في حدود أربعة أمتار، ولكن الإيحاء في الصورة بزاويتها المقصودة يجعلك تظن أن الطول أبعد من ذلك بكثير جداً، وأن الرئيسين كانا في حاجة تقريباً إلى ميكروفون يتواصلان من خلاله، مع أنهما كانا يجلسان إلى طاولة واحدة، وكانت تضمهما قاعة واحدة، وكان كلاهما يرى الآخر ويتطلع إلى ملامحه، ثم إلى وقع الكلمات على خريطة وجهه ونظرات عينيه!
في البداية، تركوا الصورة بغير تفسير، ونشروها هكذا بغير تبرير، على أمل أن كل قارئ سوف يقرأها بطريقته في قراءة مضمون الصور المنشورة. ويبدو أن القراءات قد تعددت وتنوعت، وأن صدى القراءات قد وصل إلى الرئاسة الروسية، فلم تجد مفراً من التدخل لتفرض قراءة بعينها تريدها هي. وكان مما قالته في تفسير هذه اللقطة الفريدة أن ماكرون رفض الخضوع لاختبار «بي سي آر»، وإنه كان لا بد من تباعد بين الرئيسين من نوع ما ظهر لافتاً في الصورة.
ومن جانبها، قالت الرئاسة الفرنسية الشيء نفسه، وكان مما قالته أن رفض الرئيس الفرنسي إجراء اختبار «بي سي آر»، كان من قبيل حرص السلطات المعنية في باريس على ألا يطلع أحد خارج فرنسا على الحمض النووي الخاص بالرئيس، وأن ذلك قد حدث لاعتبارات لا بد أنها مفهومة.
كلتا الروايتين تبدو صادقة، ولكن ما لم يتطرق إليه أحد على الجانبين، أن التباعد الاجتماعي الطبيعي الذي يفرضه الخوف من الإصابة بفيروس «كورونا» كان حلاً في أثناء اللقاء أمام رفض ماكرون إجراء الاختبار. وما لم يتطرق إليه الطرفان أن هذا التباعد الاجتماعي الذي عرفناه ويعرفه العالم منذ أن عرفنا «كورونا» هو شيء، بينما المنظر الذي بدا عليه الرئيسان شيء آخر تماماً، فما في الصورة هو إبعاد للرئيس الفرنسي عن نطاق جلوس الرئيس الروسي، وليس تباعداً من نوع ما نعرفه!
من الممكن أن نقرأ الصورة في إطار الحس الأمني العالي الذي يتميز به بوتين، بحكم عمله السابق ضابطاً للمخابرات في بلاده مرة، وفي ألمانيا الشرقية وقت وجودها مرة ثانية.
ومن الممكن في الوقت نفسه أن تطالع الصورة سياسياً لا أمنياً، وأن يكون قصد الطرف الروسي من وراء ترتيب اللقاء بالصورة التي ظهر بها، أن يقال من جانب موسكو إن المسافة بين الضيف، باعتباره رئيساً للاتحاد الأوروبي في دورة الرئاسة الحالية، وليس رئيساً لفرنسا فقط، وبين المضيف باعتباره على رأس روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي السابق، هي مسافة سياسية تقاس بتباين المواقف بينهما، لا بالأمتار الأربعة التي امتدت عليها الطاولة في القاعة!
من الممكن قراءة الصورة هكذا، فتبدو الأمتار الأربعة في حقيقتها فجوة سياسية بين قوتين متصارعتين، أكثر منها مسافة مكانية فرضها فيروس «كورونا» باختباره الشهير!
والمحيطون بالرئيس الروسي لا يخفون الحس الأمني العالي في داخله، وكانوا قد قالوا في أكثر من مناسبة سابقة، كان هو في زيارة خارجية، إنه لا يتناول طعاماً ولا يتذوق شراباً في أي بلد يزوره، إلا من يد الطباخ الخاص الذي يرافقه في كل مكان يذهب إليه!
وإذا كان الأمر كذلك، فإن لنا أن نتخيل الاعتبارات التي تحكم مجيء مثل هذا الطباخ للخدمة مع بوتين، ثم الاعتبارات التي تنظم عمله إلى جوار الرئيس، سواء في الكرملين؛ حيث مقر الحكم، أو في كل عاصمة يحل فيها القيصر الروسي ضيفاً في أي وقت.
وليس أقرب إلى الرئيس بوتين في هذا الهاجس الأمني الذي لا يفارقه، إلا الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون الذي يحكم في بيونغ يانغ في اللحظة الحالية. ففيما بعد اللقاء الذي جمع بينه وبين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، لأول مرة في سنغافورة يوم 12 يونيو (حزيران) 2018، قيل عنه ما لم يسبق أن قرأناه عن أي من زيارات الرؤساء خارج البلاد!
ما قيل كان فريداً من نوعه، وما حدث ثم تابعناه منشوراً أن الرئيس كيم اصطحب معه حمَّاماً خاصاً به، جرى تصميمه لزياراته في الخارج، وأن الهدف هو ألا يدخل حمَّاماً غريباً في الخارج، فتخضع مخلفاته لتحليلات طبية على يد الخصوم الذين سيكون في إمكانهم أن يتعرفوا على الحالة الصحية له، من خلال ما سوف تقوله التحليلات. ولم تذكر المصادر المقربة من الرئيس الكوري الشمالي هذا الموضوع مرة واحدة، ولكنها ذكرته مرات ومرات، وكأن القصد أن يقال للخصوم المتربصين أن يكفوا عن محاولة الوصول إلى الرئيس كيم، أو حتى محاولة التعرف على شيء يخص ملفه الصحي في العموم.
وإذا أنت ذهبت تحصي مثل هذه الوقائع في حياة الساسة، فسوف تجد الكثير الذي سيتنوع ويتغير من رئيس إلى رئيس، ولكن الصيغة الجامعة للوقائع كلها ستظل واحدة، وسيبقى الهاجس كما هو، يحرك هذا الرئيس هنا، ويخيف ذاك الرئيس هناك!
ومع ذلك، فالصورة الفريدة التي جمعت بوتين مع ماكرون، سوف تبقى صورة فارقة في شكلها الذي رأيناه، أما المحتوى السياسي الذي كان وراءها، وأما الخلفية الأمنية التي أخرجتها لنا بهذا الشكل، فإنهما يشكلان مشهداً ظهر فيه شيء وغابت عنه أشياء!
وإذا خذلك معناها السياسي عما بين الطرفين الروسي والأوروبي من اختلاف في الرؤى وأنت تحاول فك تفاصيلها، فلن يخذلك بُعدها الأمني الحاضر فيها وفي أجوائها، وكيف لا يحضر بينما أحد طرفيها هو الرئيس الروسي، بكل خلفيته القادم منها إلى عالم السياسة؟!
هي صورة سوف تقول في واحد من أبعادها الكثيرة ما لا تقوله كل الكلمات، وهي صورة تقول في عنصر من عناصرها الغنية، إن الطبع غالب في كل أحوال الشخص وحالاته، وإنه يغالب التطبع ويغلبه، وإن هذا حاكم في سلوك قيصر موسكو الذي لا ينكره ولا يداريه.