تقول تجربة التاريخ لنا، إن الشعوب هي التي عليها أن تأتي بحكوماتها، وإن الحكومات التي تأتي عن غير طريق الشعوب تظل تواجه مشكلة، وإن هذه المشكلة تنقلب في مرحلة من المراحل إلى تهمة تلاحق الحكومة.
وليس أشهر في هذا السياق من حكومة «الوفد» التي جاءت إلى الحكم في القاهرة، 4 فبراير (شباط) 1942، والتي كان على رأسها مصطفى النحاس باشا.
قبلها كان الإنجليز قد طلبوا من الملك فاروق أن يأتي بحزب «الوفد» إلى الحكم، وأن يكلف النحاس باشا بتشكيل الحكومة. ولم يقبل الملك في البداية؛ لأنه -أولاً- لم يستسغ الطريقة التي تعامل بها الإنجليز معه، حتى لو كانوا دولة احتلال في ذلك الوقت، ولأنه -ثانياً- لم يكن يستريح إلى «الوفد» عموماً، ولا إلى النحاس خصوصاً.
ولكن الطلب الإنجليزي من الملك تحول إلى إنذار، أو ما يشبه الإنذار، وغادر سفير المملكة قصر عابدين؛ حيث كان قد قابل فاروق بعد أن أفهمه أن أمامه فسحة من الوقت، وأن هذه الفسحة سوف تنتهي الساعة كذا من اليوم نفسه، وأنه إذا لم يسمع عندها أن تكليفاً بالتشكيل قد وصل إلى رئيس «الوفد»، فإن هناك بديلاً آخر سوف يستعمله.
لم يجد الملك مفراً من القبول، وأصدر تكليفاً إلى النحاس باشا بتشكيل حكومة جديدة، وتشكلت الحكومة بالفعل، رغم أن رئيسها كان متردداً في القبول بالتكليف، ولكنه حسَبها، وأدرك أن عدم قبوله سوف تكون له عواقب على بلده لا داعي لها.
كان الإنجليز في تلك الأيام يستعدون لخوض معركة العلمين مع قوات المحور التي كان يقودها ثعلب الصحراء الألماني رومل، وكانوا يرغبون في وجود حكومة قوية في الخلفية تسيطر على الشارع المصري. وكان الجنرال الإنجليزي مونتغمري على موعد مع رومل، وقد جرت وقائع المعركة الحاسمة في أكتوبر (تشرين الأول) من السنة نفسها، وانهزمت فيها قوات المحور هزيمة قاسية، وعاد رومل بقواته إلى ليبيا التي كان قد جاء منها.
في القصة تفاصيل كثيرة ليس هذا مكانها، ولكن أهم تفصيلة أن قوات الحلفاء التي كان مونتغمري يقودها، كانت تراهن على حسم العلمين لصالحها بأي طريقة، ولم تكن ستقبل الهزيمة هناك؛ لأن الهزيمة كانت تعني أن تنتهي الحرب العالمية الثانية لحساب المحور، لا لحساب الحلفاء كما جرى بالفعل عندما ألقت الولايات المتحدة الأميركية قنبلتين ذريتين على هيروشيما ونغازاكي في 6 و9 أغسطس (آب) 1945، فاستسلمت اليابان التي كانت تحارب مع المحور، وانتهت الحرب التي رسمت نهايتها ملامح هذا العالم الذي نراه.
ومن يومها إلى هذه الساعة، ثم إلى ما شاء الله في المستقبل، استخدم خصوم «الوفد» تلك الواقعة في الهجوم عليه ولا يزالون، رغم أن وطنية «الوفد» لم تكن موضع شك في أي وقت، ورغم أن «الوفد» لم يدخل انتخابات في أيام الملك إلا واكتسحها، ورغم أن المصريين من شدة تعلقهم بـ«الوفد» وإيمانهم به، كانوا يرددون دائماً أن «الوفد» لو رشح حجراً فسوف ينتخبونه، وأنهم لن يفضلوا عليه أي مرشح آخر مهما كان.
لم يكن «الوفد» حزب أقلية بحيث يفرح بتشكيل الحكومة، وكان صاحب أغلبية في كل حكوماته، وبلغت به ثقته في نفسه وفي جماهيريته، أنه كان يرفض الاشتراك في أي حكومة ائتلافية، وكان يعد هذا الرفض مبدأ من مبادئه الثابتة.
ومع ذلك كله، ومع غيره مما يساويه ويوازيه، لم يسلم «الوفد» من الهجوم عليه في كل وقت بسبب حكومة 4 فبراير الشهيرة، وكان خصومه السياسيون لا يجدون في أوقات كثيرة شيئاً يتطاولون به عليه سوى هذه الحكومة من بين حكوماته الكثيرة.
ولا بد من أن هذه القصة على بعضها تأخذنا إلى النيجر التي وقع فيها انقلاب في 26 يوليو (تموز)، فأطاح بحكومة الرئيس محمد بازوم المنتخبة، وجاء بحكومة للجنرال عبد الرحمن تياني في مكانها، وقامت الدنيا من بعدها ضد تياني ورفاقه في المجلس العسكري. وقالت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا التي تشتهر بمجموعة «إيكواس»، أنها ترفض ما جرى ضد الحكومة المنتخبة، وأنها تفكر في إعادتها إلى مقاعدها بالقوة.
وعقدت «إيكواس» اجتماعاً لقادتها، وقالت في بيان صدر بعده، إنها اعتمدت التدخل بالقوة فعلاً، وإنها حركت قواتها الاحتياطية في هذا الاتجاه. ولكنها تراجعت في مرحلة لاحقة، وقالت إنها قدمت الحل السياسي الدبلوماسي على ما سواه، وأنها سترسل وفداً منها يلتقي تياني وبقية الرفاق. وكان هذا من أحسن ما فكرت فيه أو قررته؛ لأن حكومة الرئيس بازوم المنتخبة، لن ينظر إليها أبناء النيجر على أنها منتخبة، لو عادت بالقوة عن طريق «إيكواس» أو غير «إيكواس»، والطريقة الوحيدة التي يمكن أن تظل بها منتخبة في نظر كل مواطن أن يعيدها النيجريون أنفسهم، وما عدا ذلك لن يكون في صالحها، ولا في صالح النيجر ذاتها.
درس حكومة «الوفد» في أيام الملك فاروق يظل حياً، ويظل يقول إن الحكومات تأتي بها وتعفيها شعوبها، لا أي طرف آخر.