بقلم: سليمان جودة
في مرحلة ما قبل قمة المناخ العالمية (كوب27) التي انعقدت في مدينة شرم الشيخ، كانت المدينة قد اشتهرت بأنها مدينة السلام، وربما كان ذلك لأنها استضافت الكثير من المؤتمرات الداعية إلى السلام، ولكنها في مرحلة ما بعد القمة يمكن أن تكتسب لقباً آخر هو أنها مدينة المناخ.
وإذا حدث هذا سيكون اللقب الجديد لقباً تحوزه المدينة عن استحقاق، وسيكون اسماً على مسمى، وسيكون قبل هذا كله وبعده، قد لخص القمة التي دامت أسبوعين في كلمتين.
والسبب يعرفه كل الذين تابعوا بيان الختام في هذه القمة، لأنه بيان يحمل في كلماته ما لم يحمله بيان القمة السابقة، التي انعقدت في مثل هذا الشهر على أرض مدينة غلاسكو الاسكوتلندية. فلقد جاهد المجتمعون وقتها ليخرج بيان غلاسكو مختلفاً عن بيانات صدرت عن 25 قمة سابقة في القضية نفسها، لولا أن الحظ لم يحالفهم، ولولا أن القمة الـ26 في المدينة البريطانية لم تختلف في التقييم الأخير، من حيث حصيلتها في قضيتها، عن كل ما سبقها من قمم مماثلة.
والسبب يعرفه الذين تابعوا بعضاً من جلسات قمة شرم، قبل أن يصلوا إلى بيان الختام، لأن جلسة من بين الجلسات شهدت إطلاق الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، النسخة الثانية من أكبر مبادرة من نوعها، وفي طموحها، وفي حجمها معاً.
كانت المبادرة في الحادي عشر والثاني عشر من الشهر، وكانت تحمل شعار «الشرق الأوسط الأخضر» وكان طموحها يصل إلى زراعة 50 مليار شجرة، وكانت ترصد لذلك ميزانية تصل إلى مليارين ونصف المليار دولار، وكانت وهي تنطلق تختار المكان المناسب والزمان الملائم، وكانت تعرف أن حظ المنطقة التي تنطلق في سمائها، قد جعلها تقع بين صحراء الربع الخالي في جنوب شرقي الجزيرة العربية، وبين الصحراء الكبرى في شمال غربي القارة السمراء.
ولأن صاحب المبادرة يعي هذا البُعد الجغرافي في الموضوع، فلقد اختار لمبادرته زمانها ومكانها، وقرر أن يعمل من أجل قضيته بدلاً من أن يتوقف عند حدود الكلام.
وقد كان في مقدور مصر التي استضافت القمة، وسعت إلى إنجاحها على مدى السنة، من قمة غلاسكو إلى قمة شرم، أن تضع كل همها في ملف التنظيم في حد ذاته، وأن تضمن نجاحه بما يحقق رضا المشاركين والحاضرين، وأن تدع مسألة الحصيلة للعالم الذي جاء وحضر، لأن حصيلة قمة كهذه ليست مسؤولية الدولة المضيفة وحدها، بقدر ما هي مسؤولية مشتركة بين الدول الحاضرة.
كان في مقدور القاهرة أن تركز في هذا الاتجاه، ولم يكن أحد سوف يلومها، ولكنها فضلت أن تمارس مسؤوليتها على المستويين: مستوى التنظيم الذي يقع كله في يدها بطبيعة الحال، ثم مستوى الحصيلة العملية التي يتساوى نصيبها فيها مع نصيب كل دولة مشاركة.
وعندما تمسكت بمسؤوليتها، خرج البيان يزف إلى الناس بشرى خروج «صندوق الخسائر والأضرار» إلى النور، بعد أن كان حلماً تطلعت إليه قمة غلاسكو في حينها، ثم لم تفلح في الإمساك به في يديها، وعاش حائراً طول السنة بين القمتين.
وكانت قمة الأرض قد انعقدت في ريو دي جانيرو في البرازيل، وكان ذلك في عام 1992، وكان مثل هذا الصندوق نوعاً من الأمل الذي داعب خيال الحاضرين فيها، لولا أنها انعقدت ثم انفضت وبقي الصندوق في منطقة الحلم لم يغادرها.
ومن بعدها تتالت قمم المناخ بدءاً من القمة الأولى في برلين 1995، إلى أن شهدت غلاسكو القمة 26 في 2021، وعلى مداها كلها راح الصندوق يتنقل كفكرة من قمة إلى قمة، ولكنه لم ينتقل أبداً من مرحلة الفكرة إلى مرحلة العمل بها على الأرض ومن أجل الأرض.
فلما جاءت القمة (كوب27) في شرم هذه السنة، ابتسم لها الحظ للمرة الأولى، وصادفت عزيمة من القاهرة، ومن عواصم أخرى طبعاً شاركت قاهرة المعز عزيمتها، فانتقلت الفكرة من مربع إلى مربع، ومنحها حُسن الحظ جناحين تحلق بهما في السماء.
ولم يملك أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، إلا أن يصف الصندوق بعد خروجه إلى النور بأنه: خطوة مهمة في اتجاه العدالة.
وما يقصده أن الصندوق سوف يجعل الذين يلوثون البيئة، يشاركون في رفع تداعيات هذا التلوث، وسوف يجعل الدول الأكثر تسبباً في تلويث البيئة، وبالتالي في تغيرات المناخ، تمد يدها لتساهم في إنقاذ الدول التي لا تتسبب في شيء له قيمة، وتتحمل عواقب ما لم تتسبب فيه.
ولا توجد دولة ينطبق عليها هذا المعنى أكثر من باكستان، التي تقع في القلب من آسيا، والتي لا تمتلك من الصناعات على أرضها ما يرشحها لأن تكون صاحبة نصيب أكبر في تلويث البيئة، ومع ذلك، فإنها دفعت ثمن تغيرات المناخ في هذه السنة كما لم تدفعه دولة غيرها، وهي مرشحة لأن تدفع أكثر في المستقبل.
ففي صيف هذا العام تعرضت لفيضانات لم تعرفها من قبل، فغطى الماء ثلث مساحتها، وخلفت الفيضانات وراءها خسائر مادية تصل إلى 30 مليار دولار، وتسببت في أضرار طالت 33 مليوناً من سكانها، ووصف غوتيريش ما أصابها بأنها: مجزرة مناخية.
ولا بد أن العدالة المناخية التي قصدها الأمين العام، تعني أن تتعامل باكستان مع تداعيات ما لحق بها، على حساب الدول الصناعية الكبرى، التي يخصها نصيب الأسد في ملوثات البيئة، ولا تعبأ بمن يدفعون ثمن هذه الملوثات التي تنبعث من أرضها.
وقد أرادت شيري رحمن، وزيرة البيئة والمناخ الباكستانية، أن تقول هذا المعنى بالضبط، وهي تحضر أعمال القمة في شرم الشيخ، ثم وهي ترفع شعاراً يقول: الملوِّث هو مَنْ عليه أن يدفع. ومن قبل الوزيرة رحمن كان شهباز شريف، رئيس وزراء باكستان، قد وقف يخاطب القمة، ولسان حاله يقول للحاضرين: أنتم تتحدثون عن تغيرات المناخ، ولكني رأيت عواقبها في بلادي رأي العين.
وليس معنى هذا الحديث عن قمة شرم أنها جاءت للعالم بالمن والسلوى على مائدة المناخ، ولا معناه أنها القمة التي لا قمة بعدها، ولكن القصد أنها قدمت ما لم تقدمه قمة سبقتها في الموضوع، ومعناه أن ما قدمته سوف يشجع القمة التالية لها في دبي على أن ترفع سقف طموحها، وأن تبني على ما أسست له القمة السابقة عليها، وأن تطيل من يد الصندوق لإنقاذ ضحايا التغيرات حول العالم.
صحيح أن بيان الختام لم يحدد حجم الصندوق، ولا مصادر تمويله، ولا حتى الطريقة التي سيعمل بها، وأنه ترك ذلك كله للقمة اللاحقة، ولكن الأصح أن الصندوق صار حقيقة ماثلة، بعد أن بقي ما يزيد على ربع القرن فكرة هائمة.
في أوقات سابقة كان الكلام في قضية الطقس والمناخ كلاماً في قضية من قضايا الهامش، التي لا تثير اهتماماً ولا تسترعي انتباهاً لدى أحد، ولكن لا بد أن الأمر قد تغير مع ما صاحب قمة شرم من زخم لم نكن نراه في قمم سابقة، وصار حديث الطقس والمناخ حديث العامة من الناس، بمثل ما هو هاجس الخاصة من الخبراء.
ولا يحتاج العالم إلى شيء في هذه القضية، قدر حاجته إلى أن يزداد وعي الناس بها، لأن هذا الوعي هو بداية تغيير الوضع إلى ما ينقذ الكوكب من أيدي أبنائه الذين يعبثون فيه.